الكثير منا لايحيط بهذا العلم المهم، وهو من المعارف المهمة للمسلم لكونه يرتهن بكتاب الله الكريم، وهذا الجهد مني موجه لأساتذة التربية الاسلامية بالذات حيث وجدت البعض منهم لايحرص على تفاصيله كحرصه على بقية علوم القرآن الكريم، وهو أكثر افادة للشباب والناشئة ممن اختصهم الله بحب القرآن وتلاوته.
أقول:
يمكن تشبيه النسخ في الاسلام بما يفعله الطبيب، يراجعه المريض فيغير له الدواء حيناً بعد حين، إلى أن يحصل الشفاء، (ولله المثل الأعلى)، فالله عز وجل يغير في التشريع في الأحكام مراعاة لحال المكلفين.
والنسخ لا يدخل في العقائد ولا يدخل في الأخبار، وإنما هو فقط في الأحكام.
فالقرآن نزل على الناس وأبطل عادات وأعراف خاطئةعديدة، منها أن الله تعالى أثبت العدة سنة، وبعد مدة لما استقر الأمر جعل الله عز وجل العدة أربعة أشهر وعشراً، وذلك لمعرفة براءة الرحم؛ لأن الجنين يتم تكوينه في أربعة أشهر، والعشرة أيام احتياط من أجل أن تشعر بالحركة. وكذلك الخمر، فالعرب كانوا يشربون الخمر، ولا يظنون أن يأتي عليهم يوم يفارقونها، فالله عز وجل حرم الخمر أولاً قرب أوقات الصلاة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 43 النساء، فكان الخمر محرماً قرب أوقات الصلاة، أما بعد العشاء فإن من أراد أن يشرب يشرب، حتى نزل قول الله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 90 المائدة، فصارت الخمر حراماً بالليل والنهار.
والنسخ في اللغة بمعنى الإزالة، وهو أيضا بمعنى نقل الشيء من موضع إلى موضع.
والنّسخ في الاصطلاح:
رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي.
ويطلق الناسخ على الله تعالى، كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 106 البقرة، ويطلق أيضاً على الآية وما يُعرف به النسخ، فيقال: هذه الآية ناسخة لآية كذا، وعلى الحكم الناسخ لحكم آخر.
والمنسوخ هو الحكم المرتفع.
واستمر النسخ إلى أن أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة 3
فلا نسخ بعد هذه الآية.
والنسخ ليس في الآيات فقط،
إذ يمكن حديث نبوي ينسخ آية (وهذا مالايعلمه البعض منا)،
أو آية تنسخ حديث نبوي،
أو حديث نبوي ينسخ حديث نبوي آخر.
يقول الله تعالى في شأن النسخ:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 106 البقرة
ويقول الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} سورة النحل101
وعن الأحاديث النبوية يقول الله تعالى:
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر 7.
وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} سورة النساء 65.
فإن القرآن إذا نزل بلفظ مُجْمَل ففسَّره الرسول وبيَّنه كان بمنزلة القرآن المَتْلُوِّ في الأخذ به، فكذلك النسخ.
ويظهر ذلك في حكم الوصية للوارث.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة 180.
هذه الآية مَنْسُوخة بقوله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث)،
ثم نسختها آية المواريث.
ومثال لحديث نبوي نسخ حديثا قبله، أحاديث وردت في إباحة نكاح المتعة، إلا أنها نسخت بأحاديث أخرى صحيحة وصريحة، منها: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها. رواه مسلم.
ومعرفة الناسخ والمنسوخ له أهمية كبيرة عند أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمفسرين حتى لا تختلط الأحكام. لذلك وردت آثار كتيرة في الحث على معرفته. فقد روي أن علياً رضي الله عنه مرّ على قاض فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت.
معنى هذا الكلام أن أي قاضي مسلم يشترط عليهو ان يعرف كل مواضيع النسخ في القرآن والسنة، والنسخ له شروط وفيه تفاصيل مهمة وهي:
يشترط في المنسوخ أن يكون الحكم المنسوخ شرعياً.
وأن يكون الدليل على ارتفاع الحكم خطاباً شرعياً متراخياً (يعني متأخراً) عن الخطاب المنسوخ حكمه.
وأن يكون الخطاب المرفوع حكمه غير مقيدٍ بوقت معين، وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته ولا يعد هذا نسخاً.
ويقع النسخ (فقط) في [الأوامر والنواهي] كما وضحنا في البداية، سواء كانت صريحة في الطلب، أو كانت بلفظ الخبر، الذي بمعنى الأمر أو النهي. ويشترط ألاّ يكون ذلك متعلقاً بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو الآداب الخلقية، أو أصول العبادات والمعاملات، لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول وهي متفقة فيها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 13 الشورى
كما لا يكون النسخ في الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب، كالوعد والوعيد.
وممكن نعرف الناسخ والمنسوخ بالطرق الآتية:
الأول: أن يأتي في لفظ النص ما يفيده صراحة:
ومثاله في لفظ الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} 65 الأنفال.
هذه الآية جات بعدها آية نسختها وهي: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} 66 الأنفال.
الثاني: أن يأتي في سياق النص قرينة تدل عليه:
كالذي ورد به قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلدُ مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فقد أشار نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث إلى نسخ حكم حبس الزواني في البيوت الوارد في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} النساء15
وبذلك يجمع العلماء بأن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن ينسخ الآية الكريمة من كتاب الله.
الثالث: أن يعرف تاريخ المتقدم والمتأخر:
فالمتأخر في تشريعه ناسخ للمتقدم، كما هو الشأن في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
ومما يفيد في هذا: تمييز المتقدم في نزوله بمعرفة المكي والمدني في آي القرآن الكريم.
ويتصل ذلك أيضا بالسنة الشريفة: فما وجد من الأحكام غير معلومة التاريخ معارضة لأحكام جاءت متأخرة في حجة الوداع أو بعدها إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما جاء من تلك الأحكام في الحجة أو بعدها ناسخ لِما لم يُعلم تاريخه.
وسورة البقرة -وهي مدنية- فيها ستة وعشرون موضعا للنسخ.
وهذه بعض الأمثلة لذلك:
أول آية في ذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا ... } الآية 26
منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} 85 آل عمران.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وقولوا للناس ... حسنا} 83 البقرة. منسوخة، وناسخها آية السيف، وهي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ...} 5 التوبة
الآية الثالثة: قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ... } 109 البقرة
منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } إلى قوله تعالى: {حتى بعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} 29 التوبة.
هذا ماتيسر ل(تلخيص وتقريب) هذا العلم للناس، ولمن أراد التوسعة يمكنه الاستزادة من كتب عديدة للأقدمين ومنهم القرطبي والسيوطي والشوكاني رحمهم الله، وكذلك منهم علماء افاضل من المخضرمين وهي أنسب للناشئة والشباب ومنها:
الآيات المنسوخة في القرآن الكريم للشيخ عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي.
النسخ في القرآن الكريم - دراسة تشريعية تاريخية نقدية- للأستاذ الدكتور مصطفى زيد.
اللهم أعنا على تعلم دينك الذي ارتضيت لنا واغفر لنا.
وإلى درس آخر إن شاء الله.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :
الكثير منا لايحيط بهذا العلم المهم، وهو من المعارف المهمة للمسلم لكونه يرتهن بكتاب الله الكريم، وهذا الجهد مني موجه لأساتذة التربية الاسلامية بالذات حيث وجدت البعض منهم لايحرص على تفاصيله كحرصه على بقية علوم القرآن الكريم، وهو أكثر افادة للشباب والناشئة ممن اختصهم الله بحب القرآن وتلاوته.
أقول:
يمكن تشبيه النسخ في الاسلام بما يفعله الطبيب، يراجعه المريض فيغير له الدواء حيناً بعد حين، إلى أن يحصل الشفاء، (ولله المثل الأعلى)، فالله عز وجل يغير في التشريع في الأحكام مراعاة لحال المكلفين.
والنسخ لا يدخل في العقائد ولا يدخل في الأخبار، وإنما هو فقط في الأحكام.
فالقرآن نزل على الناس وأبطل عادات وأعراف خاطئةعديدة، منها أن الله تعالى أثبت العدة سنة، وبعد مدة لما استقر الأمر جعل الله عز وجل العدة أربعة أشهر وعشراً، وذلك لمعرفة براءة الرحم؛ لأن الجنين يتم تكوينه في أربعة أشهر، والعشرة أيام احتياط من أجل أن تشعر بالحركة. وكذلك الخمر، فالعرب كانوا يشربون الخمر، ولا يظنون أن يأتي عليهم يوم يفارقونها، فالله عز وجل حرم الخمر أولاً قرب أوقات الصلاة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 43 النساء، فكان الخمر محرماً قرب أوقات الصلاة، أما بعد العشاء فإن من أراد أن يشرب يشرب، حتى نزل قول الله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 90 المائدة، فصارت الخمر حراماً بالليل والنهار.
والنسخ في اللغة بمعنى الإزالة، وهو أيضا بمعنى نقل الشيء من موضع إلى موضع.
والنّسخ في الاصطلاح:
رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي.
ويطلق الناسخ على الله تعالى، كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 106 البقرة، ويطلق أيضاً على الآية وما يُعرف به النسخ، فيقال: هذه الآية ناسخة لآية كذا، وعلى الحكم الناسخ لحكم آخر.
والمنسوخ هو الحكم المرتفع.
واستمر النسخ إلى أن أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة 3
فلا نسخ بعد هذه الآية.
والنسخ ليس في الآيات فقط،
إذ يمكن حديث نبوي ينسخ آية (وهذا مالايعلمه البعض منا)،
أو آية تنسخ حديث نبوي،
أو حديث نبوي ينسخ حديث نبوي آخر.
يقول الله تعالى في شأن النسخ:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 106 البقرة
ويقول الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} سورة النحل101
وعن الأحاديث النبوية يقول الله تعالى:
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر 7.
وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} سورة النساء 65.
فإن القرآن إذا نزل بلفظ مُجْمَل ففسَّره الرسول وبيَّنه كان بمنزلة القرآن المَتْلُوِّ في الأخذ به، فكذلك النسخ.
ويظهر ذلك في حكم الوصية للوارث.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة 180.
هذه الآية مَنْسُوخة بقوله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث)،
ثم نسختها آية المواريث.
ومثال لحديث نبوي نسخ حديثا قبله، أحاديث وردت في إباحة نكاح المتعة، إلا أنها نسخت بأحاديث أخرى صحيحة وصريحة، منها: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها. رواه مسلم.
ومعرفة الناسخ والمنسوخ له أهمية كبيرة عند أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمفسرين حتى لا تختلط الأحكام. لذلك وردت آثار كتيرة في الحث على معرفته. فقد روي أن علياً رضي الله عنه مرّ على قاض فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت.
معنى هذا الكلام أن أي قاضي مسلم يشترط عليهو ان يعرف كل مواضيع النسخ في القرآن والسنة، والنسخ له شروط وفيه تفاصيل مهمة وهي:
يشترط في المنسوخ أن يكون الحكم المنسوخ شرعياً.
وأن يكون الدليل على ارتفاع الحكم خطاباً شرعياً متراخياً (يعني متأخراً) عن الخطاب المنسوخ حكمه.
وأن يكون الخطاب المرفوع حكمه غير مقيدٍ بوقت معين، وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته ولا يعد هذا نسخاً.
ويقع النسخ (فقط) في [الأوامر والنواهي] كما وضحنا في البداية، سواء كانت صريحة في الطلب، أو كانت بلفظ الخبر، الذي بمعنى الأمر أو النهي. ويشترط ألاّ يكون ذلك متعلقاً بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو الآداب الخلقية، أو أصول العبادات والمعاملات، لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول وهي متفقة فيها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 13 الشورى
كما لا يكون النسخ في الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب، كالوعد والوعيد.
وممكن نعرف الناسخ والمنسوخ بالطرق الآتية:
الأول: أن يأتي في لفظ النص ما يفيده صراحة:
ومثاله في لفظ الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} 65 الأنفال.
هذه الآية جات بعدها آية نسختها وهي: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} 66 الأنفال.
الثاني: أن يأتي في سياق النص قرينة تدل عليه:
كالذي ورد به قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلدُ مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فقد أشار نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث إلى نسخ حكم حبس الزواني في البيوت الوارد في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} النساء15
وبذلك يجمع العلماء بأن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن ينسخ الآية الكريمة من كتاب الله.
الثالث: أن يعرف تاريخ المتقدم والمتأخر:
فالمتأخر في تشريعه ناسخ للمتقدم، كما هو الشأن في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
ومما يفيد في هذا: تمييز المتقدم في نزوله بمعرفة المكي والمدني في آي القرآن الكريم.
ويتصل ذلك أيضا بالسنة الشريفة: فما وجد من الأحكام غير معلومة التاريخ معارضة لأحكام جاءت متأخرة في حجة الوداع أو بعدها إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما جاء من تلك الأحكام في الحجة أو بعدها ناسخ لِما لم يُعلم تاريخه.
وسورة البقرة -وهي مدنية- فيها ستة وعشرون موضعا للنسخ.
وهذه بعض الأمثلة لذلك:
أول آية في ذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا ... } الآية 26
منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} 85 آل عمران.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وقولوا للناس ... حسنا} 83 البقرة. منسوخة، وناسخها آية السيف، وهي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ...} 5 التوبة
الآية الثالثة: قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ... } 109 البقرة
منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } إلى قوله تعالى: {حتى بعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} 29 التوبة.
هذا ماتيسر ل(تلخيص وتقريب) هذا العلم للناس، ولمن أراد التوسعة يمكنه الاستزادة من كتب عديدة للأقدمين ومنهم القرطبي والسيوطي والشوكاني رحمهم الله، وكذلك منهم علماء افاضل من المخضرمين وهي أنسب للناشئة والشباب ومنها:
الآيات المنسوخة في القرآن الكريم للشيخ عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي.
النسخ في القرآن الكريم - دراسة تشريعية تاريخية نقدية- للأستاذ الدكتور مصطفى زيد.
اللهم أعنا على تعلم دينك الذي ارتضيت لنا واغفر لنا.
وإلى درس آخر إن شاء الله.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :