وقفت كثيرا بين هذه الآية العظيمة من سورة آل عمران:
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
زكريا هو زوج أخت مريم عليهما السلام، إذ ان زوجه اشياع بنت عمران هي أخت مريم بنت عمران. وقيل بل أشياع هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم.
قال ابن عاشور: (ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات، فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك، فطارت القرعة لزكريا، والظاهر أنَّ جعل كفالتها للأحبار لأنها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك.
اقول:
التفاسير تجمع بأن المشيئة (يرزق من يشاء) في الآية الكريمة -مثار حديثنا- هي مشيئة الله جل في علاه، ومعلوم يقينا أن لامشيئة فوق مشيئة الله تعالى، فهو الذي يعلم الغيب وحده، وهو الرزاق ذو القوة المتين...
أما (بغير حساب) فإنها مرهونة بكثرة الرزق وتنوعه ودوامه، أي أن الله يرزق -من يختاره- من الرزق ماليس يحده حساب من حيث الكثرة وعدم انقطاعه... 
هذا اجمال ما جاء في التفاسير عن اللفظتين/السياقين.
لكن ظل قول مريم عليها السلام يتردد في وجداني وخاطري بأن (ان الله يرزق من يشاء بغير حساب) لاشهر، فكم شدني ردها هذا لزكريا، فآليت على نفسي بأن اعيد قراءة قصة مريم عليها السلام مرات من أضابير كتب السيرة، وأتدبر كل ماورد عنها من آيات وأحاديث نبوية شريفة وأقوال...
كلما دخل عليها زكريا -وهو النبي- إلى المحراب وجد بين يديها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، ومن أطايب الطعام والشراب مالا يعهد ولايعقل تيسره لها، فسألها والدهشة تنتابه:
كيف؟، ومن أين هذا كله؟
فإذا بمريم لا تزيد وهي خاشعة مفوضة الأمر كله لله: {...إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}!!!
مريم هذه يا أحباب مرت من قبل بتجربة عجيبة ومذهلة، تجربة يصعب جدا على أيما فتاة ان تحتملها، وهي التي أتت بعد نذر نذرته امها الصديقة ابنة عمران حين قالت: {...رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا...}.
وإذا بهذه الفتاة (المعاذة من الشيطان) بعد ان تكبر يحدث لها ما تحكيه هذه الآيات الكريمات: 
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً {21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً {26}}
بالله عليكم، كيف يكون إيمان ويقين فتاة مثلها ويحدث لها كل ذلك؟!
هنا، ادعوكم للعودة لنقف معا بين يدي لفظة (بغير حساب) في قولها (ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)...
لقد تبين لي والله اعلم بان لفظة وسياق (بغير حساب) هذه ليس قاصرا على كمية الرزق او تنوعه او دوامه فقط، انما تشير به مريم إلى امر أكبر واعمق من ذلك بكثير، اذ التجربة (الرهيبة) التي مرت بها، ومانتج عن ذلك من مولود (نبي رسول) يولد دون الاسباب البشرية المعلومة من أب، ثم يكلم الناس في المهد ويطمئنها ويواسيها؛ يجعلها توقن يقينا راسخا بأن الله يرزق من يشاء بدون أسباب وبغير حساب...
ولما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فإني قد بلغت من الكبر عتيا وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟، فقد نبه رد مريم إيمانا موجودا في أعماقه (وهو النبي) بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فكان قدر الله أن يولد طفل آخر هو يحي عليه السلام بعد ان انتفت أسباب وحسابات الولادة عند امه وأبيه، كما سبقه ابن خالة له هو عيسى عليه السلام الذي انتفت كذلك أسباب وحسابات الولادة البشرية عند امه (الفتاة)!
هذا الذي عن لي عن لفظة وسياق (بغير حساب) والله اعلم.
اما المشيئة في سياق (يرزق من يشاء)، فدعونا تتوقف عند هذه الآية الكريمة:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} آل عمران 38
لقد كان زكريا عليه السلام مهموما بأمر (الخلفة) وقد كبر، وكانت زوجه عاقر، فإذا به يسمع من مريم -التي يوقن بطهرها وصدقها وورعها- قولا نبهه إلى أمر كان خافيا عليه من قبل، واقول كان خافيا عليه بشاهد ابتدار الآية حيث قال الله تعالى: (هنالك)!
بعض التفاسير تقول بان هنالك قد تعني المحراب، اي انه ذهب إلى المحراب حيث كانت مريم، ليدعو الله بأن يهبه غلاما، ولكن تقول بعض التفاسير بأن زكريا عليه السلام عندما أراد أن يدعو الله كي يهبه ابناً فانه اختبأ عن الناس كي لا يوصف بالرعونة وهو في هذا العمر يدعو أن يكون له ابن...
وقال قتادة رضي الله عنه في تفسير ذلك:
(مافعل زكريا عليه السلام ذلك الاّ لأنه يعلم يقينا أن الله يحب أن يدعوه عبده خاليا وسراً دونما جهر ثم قال: إِنَّ اللَّه يَعْلَم الْقَلْب التَّقِيّ وَيَسْمَع الصَّوْت الْخَفِيّ).
و(هنالك) في هذه الآية له وصل بماسبق من رد مريم عليها السلام في الآية التي سبقتها، وهو:(ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)!
اقول:
لقد وهب الله مشيئة للبشر دون بقية خلقه، اذ جعل للبشر مشيئة واختيار، ووهبه إرادة:
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} التكوير 29
وهذه المشيئة لا تقع إلا بعد مشيئة الله، فهوجل وعلا المتصرف في عباده، والمدبر لشؤونهم؛ فلا يستطيع البشر أن يشاؤوا شيئًا أو يريدوا شيئًا إلا بعد مشيئة الله له، ومريم عليها السلام بدت لنا في ثنايا هذه الآيات قوةِ إيمانها بالله، وعظيمِ ثقتها به تعالى، وكمال توكلها عليه، وبالتالي لقلب ووجدان عامر بكل ذلك، إذا شاء صاحبه ورغب في شئ فإنه يكون اقرب الى إستجابة الله تعالى وتحقيقه له ان شاء...
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ).
والمعنى أنه لو حلف على شيء بأن يقع (ثقة بالله وحسن ظن به) لأبره الله، وقيل معنى القسم في الحديث الدعاء.
{... يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}!.
كلنا نعلم بان زكريا (وهو النبي) لا يفوت عليه ان يعلم من قبل بأن الله يرزق (بمشيئته) من يختاره، وبالتالي فلاجدال بانه عليه السلام كان يدعو الله بما يرغب ويريد ولكنه حينئذ كان يبني ذلك على (نية) وفهم غير الذي (تبين) له من رد مريم بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، لقد بان له بأن الامر فيه (مشيئة) اخرى هي أدنى رتبة من مشيئة الله، هذه المشيئة ينبغي له ان يبني عليها دعاءه، وشاهدي في ذلك ابتدار الآية ب(هنالك)!
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ ) 
الحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي. 
ومريم عليها السلام كانت تشتهي وترغب في ما تشاء من طعام وشراب وفاكهة، وكانت تدعو الله بالذي تشاءه وهي موقنة يقينا لايداخله شك بأن الله سيحقق لها طلبها ويهبها ماتشاء، وقد يقول قائل بان الله الذي يعلم كل شئ يرزق مريم بما يشاءه هو تعالى لعلمه بما يجيش في خاطرها وتريده، لكن يبقى الامر رهين بما تشاءه وترغب فيه هي حيث تدعو الله وهي موقنة بالاجابة فيستجيب لها جل جلاله، فإن ذلك ادعى لان يتسق مع السياق اللغوي والايماني الذي يريده الله من عبااده وهو ينزل لنا قرآنا نقرأه ونتدبره ونعمل به...
(هنالك) أدرك زكريا مالم ينتبه إليه من قبل، فعمد إلى تأسيس دعاءه -من جديد- على (مشيئة له) يجعلها زلفى بين يدي مشيئة الله الغالبة، ودون ان ينسى الإشارة إلى دعاءه (فيما مضى) قبل ان ينتبه إلى ماتعلمه الآن من مريم حيث قال: {...وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا...}.
اقول وبالله الاعانة والتوفيق:
ينبغي ان نتعلم من هذه الآية الكريمة ان الدعاء المؤسس على الاخبات الحق لله لمشيئة بشرية بين يدي مشيئة الله، والاخلاص في ذلك هو المحك، فالامر ليس بقاصر على نبي، انما للناس جميعا، ولنقرأ معا هذه الآية الكريمة:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
يونس 22
والشاهد في هذه الآية هو (دعو الله مخلصين له الدين).
هذا والله اعلم.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا، وذهاب أحزاننا، وأرزقنا تلاوته بالوجه الذي يرضيك عنا، واجعله نورًا لنا في قبورنا، ومؤنسًا في وحدتنا ونورًا لنا على الصراط وشفيعًا لنا يوم القيامة، انك ياربنا ولي ذلك والقادر عليه.
adilassoom@gmail.com

   

مشاركة الخبر علي :