
عادل عسوم يكتب: ذكرياتي في المانيا
هذه صورة اتوسط فيها عددا من المهندسين الممثلين لشركة Drăger الألمانية في دول الخليج وبعض دول العالم، خلال إحدى زياراتي لمقرها في مدينة لوبك الألمانية بغرض التدريب.
وهذا مقال اتحدث فيه عن ذكرياتي في ألمانيا (تأريخ تلك الزيارة في الصورة).
ذكرياتي في ألمانيا.
عادل عسوم
ارتبط عملي هنا في السعودية بألمانيا، وقدر الله لي بأن أزور تلك البلاد مرات عديدة، وان كنت قد كتبت عن ذلك في عدد من المنابر؛ لكنني سأجهد في لملمة ذلك في ثنايا هذا المقال ان شاء الله.
أول ما لفت انتباهي -عندما وطأت قدماي أرض ألمانيا لأول مرة- لغتهم ووقعها غير المريح في أذني، وأذكر بالخير صديقا من أهلنا الشايقية من قرية الأراك كان يعمل بحارا ثم استقر في المانيا، صديقي هذا لعله من أطرف من التقيت، سألته مرة عن الألمان فقال لي (وهو يميل):
- عليك أمان الله الناس ديل وكت تسمعم ينضموا، مِيْ مِتْلَ التَكَنَّك ماشيلَك فوق وَرْتَاب، ههه
وقد صدق...
فعندما تستمع إلى ألمانيين يتحادثان تخالهما يوشكان على التشاجر، لذلك عندما أستمعت وشاهدت خطابات هتلر -لاحقا- لم ادهش ل(كواريكه)،
لكن كم بدا لي هؤلاء الألمان شعبا (جادا) جدا!...
ومع جديتهم تبينت فيهم حبا عجيبا لموسيقى الأوبرا...
حبٌّ يصل حد الهيام بل الهوس!
سأحكي لكم عن ملك الأوبرا الايطالي الراحل (بافاروتي) الذي قدر لي بأن أستمع اليه واشاهده عيانا على مسرح مدينة (لوبيك) الجميل الذي انشأوه خصيصا لحفل يؤمه وتم افتتاحه مع أول عرض اوبرالي له في تلك المدينة العروس، ولعمري إن مدينة لوبيك لمدينة في حدّ الذاكرة، ولن أكون مغاليا ان قلت بأنها من أجمل مدن العالم...
ياااااه
ما أجملها وهي تتمدد في الشمال الألماني مستسلمة لأمواه بحر الشمال المحتشد بمئات الطوافات المائية...
المباني فيها تزدان بترف معمار ال(هانزا) البديع، والناس يأتلق محياهم بجمال اسكندنافي بهي، بياضهم يكاد يضئ، شُقرٌ الشعور يكاد يسيل منها الذهب كما غني صلاح ابن البادية...
اعتدت السفر اليها كثيرا لزيارة مصانع (دريقر) الألمانية التي تصنع ال(gas monitors & detection systems) حيث تمثلها الشركة التي أعمل بها هنا في السوق السعودي والخليجي...
يومها أعلمني مدير تسويق الشركة (مارك هاناماير) بأنهم أكملوا بناء أكبر مسرح على شاطئ بحر الشمال احتفاء بزيارة مغني الأوبرا الايطالي العالمي (بافاروتي)، وفي اليوم الموعود أخذني بسيارته الأوبل الفخمة إلى مسرحهم المهيب،
وهناك رأيت الجمال والابداع في أسمى صوره!
مسرح مبني على شاكلة مبنى الأقواس الاسترالية يتمدد في أمواه بحر الشمال على شكل حدوة حصان مذهبة، وعلى الحواف بدت سرابات من اشجار نخيل الزيت تضج بLight Spots فترى خيوط الضوء تنطلق من كل أنملة على طول كل نخلة!...
وبين يدي المسرح، وعلى طول الشاطئ تقبع سُفُنٌ مزينة بكهارب تنعكس على اديم مياه البحر،؛ فتحار أهي رابضة فوق الماء أم تحته!...
وحانت اللحظة التي ينتظرها الألوف من المشاهدين عندما اعتلى بافاروتي (ساحة) المسرح ولا اقول خشبته!...
وانطلقت من خلفه سحب كثيفة من دخان الأوكسجين ليزداد ائتلاق الأنوار والكهارب في المكان...
فوقف عشرات الألوف من المشاهدين يصفقون مرحبين ببافاروتي، وانتثرت بين يدي الرجل الضخم عشرات الحسان من راقصات الباليه يدرن بين يديه كالفراشات، يلبسن زيّا فضّيا جعلهن كحوريات البحر، وقد جعلوا مولجهن إلى المسرح نفقا ينتهي بوردة يتفتح كاسها وبتلاتها فجأة فتخالهن حوريات تخرج من لُجّة أمواه البحر...
وقف بافاروتي موجهة اليه أنوار الدنيا كلها، و(صنقع)، ثم (طقّ الكواريك)...
اعذروني ياأحباب إذ لم أجد وصفا أَلْيَقَ بما فعله بافاروتي يومها الاّ بال(كواريك)، هههة
مالي أنا وغناء الأوبرا؟!
لقد أوشكت بأن أكون مثل (مستر بين) الذي لم يجد بدا من نزع جواربه ليسد بهما أذنيه، وكم حاولت جاهدا بأن أطرب كغيري من تلك الألوف المؤلفة لبافاروتي لكنني اعترف بأنني عجزت عن ذلك عجزا مبينا، فجلست مرغما أوزع ابتساماتي المصطنعة على مجاوريّ واتمايل معهم مجاملا إلى أن انتهى الحفل...
لكنني اختزنت تلك الليلة وصوت ومرأى بافاروتي في أقاصي ذاكرتي؛ وإذا بي اجد نفسي من بعد ذلك بأعوام محب لغناء الأوبرا، فأصبحت أجيد الاستماع لرينيه فليمنج، وخوسيه كاريراس، والروسية عايدة جريفولينا التي ابدعت عندما غنت خلال فعاليات كأس العالم عام 2018، ولعل ذلك أيضا جعلني أصبح من محبي النور الجيلاني الذي لم أكن من معجبيه من قبل، أسأل الله له الشفاء.
أعود إلى مدينة لوبيك التي لاينتهي ادهاشها، لقد كان اسم الطريق الذي يقع عليه الفندق -مكان اقامتي- وكذلك شركة Dràger التي ازورها هو: (Mosling Ali Straat)، أي (موزلنق أَلِي استرات)، والترجمة الحرفية لهذا الاسم
- كما أخبرني أحد الأتراك هناك- تعني(شارع المسلم عَلِي)!
ولعمري لشارع يرد فيه مسمى (مسلم) و(علي) ويقع في وسط مدينة ألمانية شهيرة اسمها لوبيك يجعلني أتساءل عن قصة هؤلاء الألمان مع الاسلام، خاصة بعد الزيارة (الصدمة) التي سأحكي لكم عنها:
خلال عطلة نهاية الأسبوع، أخبرتنا المسؤولة عن الترفيه في الشركة ونحن لفيف من المهندسين الممثلين للشركة في بعض دول الخليج والعالم، بأنهم سيذهبوا بنا إلى مدينة مجاورة لزيارة احد القصور التأريخية، ومن بعد ذلك نذهب لركوب التليفريك، هل تعلمون ماهو ذاك القصر؟!
لقد تفاجأت بكونه لجد وزير الدفاع الأمريكي -يومها- (دونالد رامسفيلد)!...
يممنا صوب الدار -القعلة- فاخبرني أحد الألمان المسلمين من ذوي الجذور التركية بأن
جد رامسفيلد هذا صاحب تاريخٌ قمئ لم يكن يدع فرصة للحديث الاّ ويكيل السباب والشتم للمسلمين، وقد قتل هذا الجد الأكبر لدونالد رامسفيلد خلال الحملات الصليبية على بيت المقدس أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، بين يدي كل ذلك تبينت سبب كره هذا الحفيد للإسلام والمسلمين في ثنايا مافعله خلال حرب العراق، ومافُعِلَ في عهده بالمسلمين في سجون قوانتانامو...
وكذلك ماقيل عنه خلال وباء انفلونزا الطيور أو الخنازير، بكون الشركة المنتجة والمسوقة لدواء (التاميفلو) كانت تتبع له، وهي التي كسبت مئات الملايين من الدولارات خلال فترة انتشار الوباء...
وانتهت الزيارة ولم يستطع التلفريك والانتقال بعرباته مابين قمم الجبال ازالة الاحباط الذي اعتراني بسبب ذكرى دونالد رامسفيلد وقصر جده، إلى أن ألتقيت ببروفيسورة ألمانية عجوز صادفتها خلال سفري إلى مدينة هامبورق بالقطار...
كنت أجلس لوحدي على مقعد من مقاعد عربة القطار السريع وبيدي صحيفة عربية أتصفحها -وأظنها القدس العربي- فإذا بعجوز تجلست بازائي، تابعتها من طرف خفي فوجدتها وكأنها تتحين فرصة للحديث معي، وما ان أزحت الصحيفة عن وجهي الاّ وسألتني بانجليزية لابأس بها:
- يبدو انك عربي؟
- نعم أنا من السودان.
عَرّفتني المرأة بنفسها بكونها تعمل محاضرة في احدى الكليات الجامعية في مدينة هامبورج، وأنها سبق أن زارت مصر والسودان وبعض الدول الاسلامية، وتواصل حديثنا طوال الرحلة إلى أن فاجأتني بالآتي:
- نحن الألمان شعب يتملكنا احساس داخلي بكوننا متميزون على كل الأوربيين في كل شئ، فقد كنا يوما نتسيد أوربا، لكننا وجدنا أنفسنا فجأة بلا شئ يميزنا، فاللغة الألمانية أضحت لا تنافس اللغات الأوربية الاخرى مثل الانجليزية والفرنسية، وحتى الدين المسيحي يعتبره الألمان دينا للايطاليين وبقية الأوربيين قبل أن يكون دينا لهم!...
والرأسمالية هنا والشيوعية في الجزء الآخر -السابق- من ألمانيا ليسا سوى ثقافتين دخيلتين على ألمانيا، لكل ذلك - والحديث لها- فإن الألمان وبما يعتورهم من شعور عميق بالرغبة في التميز؛ هم أقرب الشعوب الأوربية لاعتناق الاسلام!...
قالت لي ذلك ثم سألتني عندما علمت بقدومي لتوي من مدينة لوبيك:
- هل زرت السيد مراد هوفمان هناك؟!
ومراد هوفمان هذا ديبلوماسي ألماني أسلم بعد أن عمل كسفير لألمانيا في بعض دول الشمال الأفريقي لأعوام، ثم كتب العديد من الكتب عن الاسلام،
وبحمد الله كنت قد زرت الرجل في بيته في مدينة لوبيك خلال زيارة سابقة قبل أن ينتقل إلى مدينة أخرى بالجوار، وأهدى بيته إلى المسلمين ليصبح المسجد الكبير في مدينة لوبيك، والذي تشرفت بالصلاة فيه لمرات عديدة خلال زياراتي العديدة لتلك المدينة...
وقد صدقت المرأة...
فقد وجدت هؤلاء الالمان أكثر الشعوب الأوربية قربا إلى الاسلام، تلمست ذلك خلال زياراتي العديدة إلى مدن تلك البلاد إلى أن ختمتها بزيارة لعلي أتحدث عنها لاحقا إلى الزاوية البرهانية الكبيرة في مدينة شتوتجارت إن شاء الله...
واختم بالعودة إلى اللغة الألمانية فاقول:
بالرغم من (دشانة) وقع هذه اللغة على الأذن؛ الاّ انني إستلطفت بعضا من خواتيم الكلمات لديهم لما فيها من موسقة وايقاع جميل...
تلك الخواتيم تندرج في مفردات مثل (سايم) و (آون) و (هاقن) التي لها وقع جميل على الأذن خاصة عندما تكون صادرة من أنثى، وهناك تسجيل صوتي لأنثى تجده في جميع مطاراتهم ومحطات قطاراتهم بل حتى في المحال التجارية كم وجدت فيه بصماتٍ وشبه بصوت راحلتنا (ليلى المغربي) رحمها الله!
ولعل الألمان ولعلمهم بشتارة وقع لغتهم على الآذان عمدوا إلى هذا التسجيل الصوتي ال(أوحد) الرخيم؛ فجعلوه في كل مطاراتهم ومحطات قطاراتهم ومداخل محالهم التجارية...
ولا أخال عشقهم الاسطوري للأوبرا الاّ ردة فعل لوجدانهم المعترف بشتارة وقع لغتهم...
وان شاء الله سأكمل ذكرياتي في مقال لاحق أتحدث فيه عن لقائي بعدد من المسلمين الألمان في الزاوية البرهانية في مدينة ستوتجارد، وكذلك أحكي عن زيارتي لأكبر مصنع للمواد الكيميائية في العالم بمدينة لودفيغسهافن، وهو يتبع لشركة BASF.
التحية للشعب الألماني.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :