
د.سعاد فقيري تكتب: تحدي البقاء: معالجة مياه الخرطوم في مواجهة التحديات ومكافحة الآفات الناقلة للأمراض
تعد مدينة الخرطوم، عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، واحدة من أكثر المدن الأفريقية حيوية، ولكنها تواجه تحديًا وجوديًا يتمثل في تأمين مياه شرب آمنة لسكانها المتزايدين ومكافحة الآفات التي تنتشر بسبب مشاكل الصرف الصحي والمياه الراكدة. هذا المقال يتعمق في واقع معالجة المياه، والإمكانات المستقبلية، واستراتيجيات مكافحة ناقلات الأمراض.
أولاً: واقع معالجة مياه الشرب في الخرطوم
تعتمد الخرطوم بشكل شبه كلي على مياه نهر النيل كمصدر رئيسي للمياه الصالحة للشرب. تمر عملية المعالجة بعدة مراحل، لكنها تواجه معوقات كبيرة.
1. محطات المعالجة الرئيسية:
· محطة الخرطوم لمعالجة المياه (سيالة الخرطوم):
وهي العمود الفقري لتزويد العاصمة بالماء. تعمل على معالجة المياه من النيل الأزرق.
· محطة توتي:
تخدم جزيرة توتي وتعتمد على النيل الأزرق.
· محطة الجيلي (الحاج يوسف): تعتمد على خزان جبل أولياء على النيل الأبيض.
2. مراحل المعالجة التقليدية:
· المرحلة الأولى:
التصفية والتهوية: يتم ضخ المياه من النهر وتمريرها عبر مصافي لإزالة العوالق الكبيرة (أغصان، أوراق، أسماك...). ثم تتهوى المياه لإزالة الغازات الذائبة وتحسين الطعم.
· المرحلة الثانية:
التخثر والترويق (التنديف): تضاف مواد كيميائية (مثل كبريتات الألمنيوم "الشبة") لتجميع الجسيمات العالقة الدقيقة والغرويات على شكل كتل أكبر (كتل طرية) يسهل ترسيبها.
· المرحلة الثالثة:
الترسيب: تترك المياه في أحواض كبيرة لتهدأ وترسب الكتل الطرية في القاع.
· المرحلة الرابعة:
الترشيح: تمر المياه عبر مرشحات رملية وغرولينية لإزالة أي جسيمات متبقية.
· المرحلة الخامسة:
التعقيم: وهي المرحلة الأهم، حيث يتم إضافة الكلور بتركيز محسوب لقتل البكتيريا والفيروسات والطفيليات الضارة وضمان بقاء المياه معقمة حتى وصولها إلى المستهلك.
3. التحديات والمعوقات:
· التلوث المسبق لمياه النهر:
تلقى كميات من مياه الصرف الصحي غير المعالج والنفايات الصناعية والزراعية في النيل، مما يرفع العبء العضوي على محطات المعالجة ويتطلب جرعات أكبر من المواد الكيميائية.
· البنية التحتية القديمة:
تعاني بعض أجزاء شبكات الضخ والتوزيع من التقادم، مما يؤدي إلى فقدان كبير في المياه (تسرب) واحتمالية تلوثها بعد خروجها من المحطة.
· الزيادة السكانية الهائلة:
تفوق قدرة محطات المعالجة الحالية الطلب المتصاعد، مما يؤدي إلى انقطاع متكرر للمياه وضغط منخفض في الشبكة.
· عدم استقرار إمدادات الطاقة: يؤدي انقطاع الكهرباء إلى تعطيل عمل المحطات، مما يؤثر على انتظام ضخ المياه.
· الفيضانات والمواد العالقة:
في موسم الفيضانات، تزداد نسبة الطمي والعكارة في المياه بشكل هائل، مما يعقد عملية التخثر والترسيب ويقلل من كفاءة المحطات.
ثانيًا: الإمكانات والفرص المستقبلية لتحسين معالجة المياه
لتجاوز هذه التحديات، هناك عدة إمكانيات يمكن الاستفادة منها:
1. التطوير التقني لمحطات المعالجة الحالية:
· تحديث أنظمة التخثر والترشيح باستخدام تقنيات أكثر كفاءة مثل الترشيح الغشائي (أغشية التناضح العكسي أو الترشيح الفائق) لضمان إزالة أدق الملوثات بما فيها الفيروسات والأملاح الذائبة.
· استخدام أنظمة مراقبة وتحكم آلية (SCADA) لمراقبة جودة المياه في كل مرحلة بدقة والتحكم في جرعات الكيماويات تلقائيًا.
2. تنويع مصادر المياه:
· المياه الجوفية:
حفر آبار ارتوازية محكمة في مناطق مختارة كمصدر تكميلي أو احتياطي طوارئ، مع ضرورة معالجة مشاكل التركيز العالي للأملاح أو الحديد في بعض المناطق.
· إعادة استخدام المياه المعالجة: بناء محطات متطورة لمعالجة مياه الصرف الصحي لدرجة يمكن معها استخدامها في ري المساحات الخضراء والحدائق العامة والغابات، مما يحفظ مياه الشرب للأغراض المنزلية.
3. تحسين كفاءة الشبكة وإدارة الطلب:
· مشاريع إحلال وتجديد الشبكات: استبدال الأنابيب القديمة والمتسربة بأنابيب حديثة من مواد غير قابلة للتآكل (مثل البولي إيثيلين عالي الكثافة).
· تركيب العدادات الذكية:
لتشجيع ترشيد الاستهلاك والكشف السريع عن التسربات.
· حملات التوعية:
توعية المواطنين بأهمية ترشيد استهلاك المياه وحمايتها من التلوث.
ثالثًا: محاربة الآفات والحشرات الناقلة للأمراض
ترتبط مشكلة الآفات ارتباطًا وثيقًا بمشكلة المياه والصرف الصحي. المياه الراكدة والمخلفات هي البيئة المثلى لتكاثر البعوض والذباب والقوارض.
1. ناقلات الأمراض الرئيسية:
· البعوض: (مثل الأنوفيلة الناقلة للملاريا، و الزاعجة الناقلة للحمى الصفراء وحمى الضنك، و الكسولكس الناقل لداء الفيلاريا).
· الذباب: (مثل الذباب المنزلي الناقل لأمراض الإسهال والتهابات العين كالتراخوما).
· القوارض: (مثل الجرذان التي تنقل الطاعون واللبتوسبيرا وغيرها عبر بولها وبرازها).
2. استراتيجيات المكافحة المتكاملة:
أ. المكافحة الهندسية والبيئية (الأكثر استدامة):
· إدارة النفايات الصلبة:
جمع القمامة بشكل منتظم وآمن، والتخلص منها بطريقة صحيحة (الطمر الصحي) لمنع تكون بيئة لتكاثر الذباب والقوارض.
· تحسين شبكة الصرف الصحي: منع تسرب مياه الصرف وتراكمها في الأحياء، والتي تشكل أكبر موقع لتكاثر البعوض.
· التغطية الكاملة لخزانات المياه: منع البعوض من الوصول إلى المياه لوضع بيوضه.
· التطهير الدوري للمجارير والمصارف المفتوحة: باستخدام مواد مطهرة وآمنة.
· إزالة المياه الراكدة:
تشجيع المجتمعات المحلية على إفراغ أي حاويات قد تجمع مياه الأمطار (إطارات قديمة، أواني، الخ).
ب. المكافحة الكيميائية (بحذر):
· رش المبيدات الحشرية:
رش المناطق عالية الخطورة (حول مصادر المياه الراكدة، أسواق اللحوم والخضار) بمبيدات ذات فعالية ومأمونة بيئيًا.
· استخدام طعوم القوارض:
وضعها في أماكن محددة وآمنة بعيدًا عن متناول الأطفال والحيوانات الأليفة.
· معالجة مصادر التكاثر:
رش زيوت أو مبيدات خاصة على المياه الراكدة التي لا يمكن إزالتها لقتل يرقات البعوض .
ج. المكافحة الحيوية:
· تشجيع الكائنات المفترسة الطبيعية مثل الأسماك التي تتغذى على يرقات البعوض (مثل أسماك Gambusia) في البرك والخزانات الثابتة.
د. المكافحة المجتمعية والتوعية:
· لا تكتمل أي استراتيجية بدون مشاركة المجتمع.
يجب توعية المواطنين عبر وسائل الإعلام والمساجد والمدارس بـ:
· أهمية النظافة الشخصية والعامة.
· كيفية التعرف على أماكن تكاثر الآفات وإزالتها.
· الاستخدام الآمن للمبيدات المنزلية.
· الإبلاغ الفوري عن أي بؤر لتجمع المياه الراكدة أو القمامة.
الخلاصة والتوصيات
معالجة أزمة المياه ومكافحة الآفات في الخرطوم هما وجهان لعملة واحدة؛ ألا وهي الصحة العامة والاستقرار الاجتماعي. الحل لا يكمن في حل تقني سحري واحد، بل في نهج متكامل يشمل:
1. استثمار عاجل وكبير في تحديث البنية التحتية لمحطات المياه وشبكات الصرف الصحي.
2. تبني تقنيات معالجة متطورة لمواجهة تلوث المصدر وضمان جودة الماء.
3. تعزيز إدارة النفايات الصلبة بشكل علمي لمنع تكون بؤر لتكاثر الآفات.
4. تفعيل برنامج وطني متكامل لمكافحة ناقلات الأمراض يعتمد على الأساليب البيئية المستدامة أولاً.
5. تمكين المجتمع عبر التوعية المستمرة وجعله شريكًا فعالاً في الحل.
الخرطوم، بموقعها الفريد وثروتها المائية، لديها الإمكانات لتصبح نموذجًا يُحتذى به، لكن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية وتخطيطًا استراتيجيًا طويل الأمد واستثمارًا ذكيًا في صحة الإنسان والبيئة.
مشاركة الخبر علي :