
د.سعاد فقيري تكتب: تشكيل القوة المشتركة لمكافحة تهريب الذهب: خطوة متأخرة على درب إنقاذ الاقتصاد السوداني
في خطوة تُعد بمثابة شريان حياة للاقتصاد الوطني المنهك، أعلنت الدولة السودانية عن تشكيل قوة مشتركة لمكافحة تهريب الذهب. جاءت هذه الخطوة التي طال انتظارها كاعتراف صريح بحجم النزيف الذي تتعرض له ثروات البلاد، وهي وإن كانت متأخرة، فإنها تظل خطوة في الاتجاه الصحيح وتحمل في طياتها بذور أمل لمستقبل أكثر استقرارًا.
الذهب: كنز السودان المهدور وخزان العملة الصعبة الضائع
لا يخفي على أحد أن السودان بلد غني بثرواته المعدنية، وعلى رأسها الذهب، الذي كان من المفترض أن يكون عمادًا للاقتصاد الوطني ومنقذًا له من أزمات متعددة، خاصة بعد فقدان الجزء الأكبر من عائدات النفط. تشير التقديرات إلى أن السودان يحتل مراتب متقدمة في إنتاج الذهب إفريقيًا وعالميًا، إلا أن الفجوة الهائلة بين الإنتاج الرسمي المسجل وما يتم تهريبه عبر الحدود تُشير إلى كارثة حقيقية. لقد تحول هذا المورد الاستراتيجي من منقذ محتمل إلى شاهد على إدارة مختلة وفساد مستشري، حيث يتم تهريبه بمنتهى السهولة عبر شبكات منظمة تستفيد من ضعف السلطات وغياب الرقابة.
لماذا جاءت هذه الخطوة "متأخرة"؟
وصف هذه المبادرة بـ"المتأخرة" ليس تقليلًا من شأنها، بل هو تشخيص لواقع مرير عانى منه السودان لسنوات. فالتهريب لم يبدأ أمس، بل استشرى خلال سنوات طويلة، أُهدرت خلالها مليارات الدولارات التي كانت ستغير وجه الاقتصاد لو تم استثمارها في الخزينة العامة. لقد تسربت هذه الثروة الهائلة لتمول أجندات جهات داخلية وخارجية، بينما ظل المواطن يعاني من انهيار العملة وارتفاع التضخم وندرة السلع الأساسية. كان من المفترض أن تكون حماية هذه الثروة أولوية قصوى منذ لحظة اكتشافها، وليس بعد أن أصبح التهريب صناعة قائمة بذاتها.
ولماذا هي "خير" رغم ذلك؟
رغم التأخير، فإن إطلاق هذه القوة المشتركة يبقى خيرًا لعدة أسباب جوهرية:
1. الاعتراف الرسمي بالمشكلة: تمثل هذه الخطوة اعترافًا رسميًا علنيًا بحجم وجسامة مشكلة التهريب، وهو أمر أساسي لأي معالجة حقيقية. لا يمكن حل مشكلة يتم إنكارها أو التغاضي عنها.
2. النَهج الشامل والمتكامل: كونها "قوة مشتركة" بين جهات متعددة (كالجيش والشرطة وجهاز الأمن والمصلحة العامة للذهب، وغيرها) يعني معالجة المشكلة من كافة الجوانب: الأمنية والاقتصادية والقضائية. هذا التكامل هو السبيل الوحيد لمواجهة شبكات التهريب المعقدة.
3. استعادة سيادة الدولة: استعادة السيطرة على مناجم الذهب وطرق تهريبه هي في جوهرها استعادة لسيادة الدولة على أراضيها وثرواتها، وضربة لشبكات الفساد وتقويض لنفوذ الدولة العميقة.
4. الأمل في إنعاش الاقتصاد: كل جرام ذهب يتم تحصيله رسميًا يعني دخول العملة الصعبة إلى الخزينة العامة، مما يدعم قيمة الجنيه السوداني، ويمول استيراد السلع الأساسية، ويمنح الحكومة هامشًا للإنفاق على الخدمات والبنية التحتية.
التحديات والمخاطر:
طريق هذه القوة لن تكون مفروشة بالورود. فستواجه تحديات جسيمة، أبرزها:
· قوة وشبكات التهريب: التي تكونت لسنوات وامتلكت نفوذًا وقوة نارية وتوغلت في مؤسسات الدولة.
· الفساد الداخلي: أكبر تحدي هو ضمان نزاهة أفراد وعناصر هذه القوة نفسها ومنع اختراقها من قبل مهربين.
· التعقيدات اللوجستية: طول الحدود ووعورة التضاريس في مناطق التعدين يجعل المهمة شاقة للغاية.
· الجذور الاقتصادية: يجب أن تقترب المكافحة بمعالجة الأسباب التي تدفع المعدنين التقليديين والتجار للجوء للقنوات غير الرسمية، مثل تقديم أسعار مجزية وتسهيل الإجراءات.
خاتمة:
البداية وليست النهاية
تشكيل القوة المشتركة لمكافحة تهريب الذهب هو ليس حلًا سحريًا، بل هو أداة ضرورية وبداية حقيقية لمعركة طويلة. نجاحها لن يُقاس بعدد الضبطيات فقط، بل بمدى انعكاس عائدات الذهب على الاقتصاد الكلي وحياة المواطن البسيط. إنها خطوة متأخرة بالفعل، لكنها تظل خطوة خير خير تُعيد للأذهان مقولة "لم يفت الأوان بعد". على الحكومة والجهات المعنية أن تدعم هذه القوة بكل ما أوتيت من قوة، وأن توفر لها الغطاء السياسي والقانوني، لأن في نجاحها نجاة للاقتصاد السوداني من الهاوية، وخطوة أولى على طريق البناء والاستقرار.
مشاركة الخبر علي :