
حديث الساعة إلهام سالم منصور تكتب: تفكك قوات الدعم السريع: هل يعيد السودان رسم خارطة السلطة؟ بين التآكل الداخلي وصراع البقاء منعطف جديد في مسار الحرب
بعد أكثر من عامين على اندلاع واحدة من أعنف الحروب الداخلية في القارة الإفريقية، يمر السودان اليوم بمنعطف معقّد وحاسم. تظهر مؤشرات متزايدة على تفكك البنية الداخلية لقوات الدعم السريع، الميليشيا التي كانت حتى وقت قريب رأس الحربة في الصراع ضد القوات المسلحة السودانية.
ورغم أن هذه التحولات تبدو عسكرية في ظاهرها، فإنها تعكس تغيرات أعمق في بنية السلطة، وترتيبات الولاء، وربما في مستقبل الدولة السودانية ذاتها.
تفكك البنية التنظيمية للدعم السريع يُعدّ من أبرز التطورات منذ اندلاع الحرب، وربما يكون أول إشارة لتحوّل موازين القوى. فهل نحن بصدد بداية نهاية الحرب، أم بداية تفكك أوسع قد يهدد بقاء الدولة ذاتها؟ هذا ما يسعى التحليل التالي لتفكيكه.
أولًا: الدعم السريع – بنية القوة الهجينة
تأسست قوات الدعم السريع في عام 2013 كامتداد لقوات الجنجويد التي شاركت في حرب دارفور خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ورغم محاولات "شرعنتها" من خلال تبعيتها لجهاز الأمن ثم لاحقًا للجيش، إلا أن بنيتها القبلية واللامركزية ظلت سمة غالبة.
اعتمدت هذه القوة على تحالفات قبلية واسعة، وتمويل خارجي، وتجنيد من الهامش الجغرافي والاجتماعي، ما منحها قدرة على الانتشار السريع، لكنه في المقابل جعلها هشة تنظيميًا أمام أول اختبار حقيقي للتماسك. وقد بدأ هذا التصدّع يبرز بوضوح منذ منتصف عام 2024، حين بدأت بعض القيادات الميدانية بالتصرف بشكل مستقل، بل دخلت في تفاوض سري مع أطراف معادية أو محايدة.
ثانيًا: مظاهر التفكك داخل الدعم السريع
لا يعني تفكك الدعم السريع انهيارًا مفاجئًا، بل هو عملية تآكل تدريجية في البنية التنظيمية والسياسية، تتجلى في ظواهر متعدّدة، من أبرزها:
1. انقسامات القيادة: تصاعد الخلافات بين محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأشقائه، وبين عدد من القادة الميدانيين، لا سيما في دارفور وكردفان، حيث بدأت بعض المناطق تتصرف كأنها سلطات محلية مستقلة.
2. تصاعد الولاءات القبلية: تفكك القوات على أسس جهوية وعرقية أضعف الانضباط الداخلي، وقلّص القدرة على التنسيق الميداني.
3. أزمة تمويل وفساد: تراجع الدعم المالي الخارجي، واحتدام الصراعات الداخلية للسيطرة على الموارد، أديا إلى تقويض القدرة التشغيلية.
4. تدهور الأداء العسكري: فقدان السيطرة على مواقع استراتيجية، وتراجع القدرة على شنّ هجمات أو الحفاظ على المبادرة الميدانية.
ثالثًا: هل يستفيد الجيش من هذا التصدّع؟
الجيش السوداني، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يبدو أنه بدأ يحقق مكاسب عسكرية ملموسة في الآونة الأخيرة. ومع تصدّع قوات الدعم السريع، تبرز أمامه فرص استراتيجية محتملة:
استعادة المدن والمواقع الحيوية التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع.
استقطاب القادة المنشقين لتفكيك الميليشيا من الداخل.
تعزيز صورته كمؤسسة وطنية في مقابل ميليشيا مرتبطة بالعنف والتفكك.
لكن هذه المكاسب العسكرية تظل محدودة الأثر إن لم تترافق مع خطاب سياسي موحد، ومشروع وطني شامل يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
رابعًا: المشهد الإقليمي والدولي
لا يتحرك السودان في فراغ. أطراف إقليمية مثل مصر، الإمارات، وتشاد، بالإضافة إلى قوى دولية كروسيا، الصين، والولايات المتحدة، تراقب عن كثب التطورات، وتسعى لحماية مصالحها المتقاطعة في المنطقة، لا سيما ما يتعلق بالبحر الأحمر، والموارد الطبيعية، والحدود المشتركة.
تصدّع الدعم السريع قد يدفع بعض هذه القوى إلى دعم تسوية سياسية تحفظ توازن النفوذ، أو حتى التدخل عبر وكلاء محليين جدد للحفاظ على مصالحها الحيوية.
خامسًا: سيناريوهات محتملة
1. انهيار الدعم السريع ونصر الجيش: يستعيد الجيش السيطرة تدريجيًا، وتنتهي الحرب خلال أشهر، ما يمهّد لنظام سياسي جديد تهيمن عليه المؤسسة العسكرية. غير أن هذا السيناريو قد يُعيد إنتاج صراع لاحق مع القوى المدنية.
2. تقسيم النفوذ وتسوية مؤقتة: يحتفظ الدعم السريع بنفوذه في أجزاء من دارفور، وتُبرم تسوية تؤدي فعليًا إلى تقسيم غير معلن، مع استمرار التوتر وعدم الاستقرار.
3. فوضى مفتوحة: يتفكك الدعم السريع إلى مجموعات محلية صغيرة، دون أن يستطيع الجيش فرض سيطرته الكاملة. في هذه الحالة، قد تدخل البلاد مرحلة من الصراعات القبلية والحروب الأهلية غير المركزية، مع خطر صعود تنظيمات متطرفة.
سادسًا: ما بعد الحرب؟
تفكك الدعم السريع وحده لا يكفي لإنهاء الحرب. المطلوب هو بناء مسار سياسي وطني شامل، تشارك فيه القوى المدنية، ويتم فيه إعادة تعريف العلاقة بين المركز والأقاليم، وهيكلة المؤسسات الأمنية بما يضمن توحيد السلاح تحت مظلة الدولة.
لم تعد المعركة سودانية محضة، ولا عسكرية بحتة، بل أصبحت معركة على هوية الدولة ومصيرها. فإما أن تُبنى دولة وطنية حديثة، أو ينزلق السودان إلى نموذج الدولة الفاشلة التي تهيمن عليها الميليشيات والولاءات الضيقة.
التفكك الجاري في الدعم السريع قد يشكل نقطة تحوّل في الصراع، لكنه لا يُمثّل بالضرورة نهاية له. بل ربما يكون بداية لمرحلة أكثر تعقيدًا، تتطلب وعيًا سياسيًا عميقًا، وإرادة جماعية لبناء مستقبل مختلف على أنقاض الخراب.
مشاركة الخبر علي :