
حديث الساعة إلهام سالم منصور تكتب: السودان بين كنوز الأرض وضياع الإدارة: من يحرس الذهب؟
في بلد يعاني من أزمات متكررة، وانقسامات سياسية حادة، وتحديات اقتصادية مزمنة، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: لماذا لا تنعكس موارد السودان الهائلة على حياة مواطنيه؟
السودان ليس بلدًا فقيرًا، بل بلد غارق في الغنى المدفون، لكنه مكبل بسوء الإدارة، وانعدام التخطيط الاستراتيجي، وانقسام الإرادات السياسية.
موارد السودان: غنى متنوع يكفي لإنهاض أمة
الذهب:
يُنتج السودان أكثر من 18 طناً من الذهب شهريًا بحسب بعض التقديرات، ولكن النسبة الأكبر منه تُهرب إلى الخارج، أو تدخل في قنوات غير رسمية لا تعود بأي فائدة على خزينة الدولة.
إذا خُصص فقط نصف إنتاج الذهب شهريًا لمشاريع البنية التحتية، فإننا نستطيع خلال عامين فقط بناء شبكة كهرباء وطنية متكاملة، وتطوير محطات مياه حديثة، وتوفير الطاقة المستقرة لقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات.
الثروة الحيوانية:
السودان يملك ما يقرب من 110 مليون رأس من الماشية (أبقار، أغنام، إبل، ماعز)، تصدّر سنويًا بمئات الملايين من الدولارات، ولكن القطاع يعاني من ضعف التسويق الخارجي، وعدم توفر مسالخ ومصانع لحوم مؤهلة، مما يُفقد البلاد قيمة مضافة هائلة.
الزراعة:
أراضي زراعية تمتد على ملايين الهكتارات، وتُروى طبيعيًا دون الحاجة لتكلفة ري مرتفعة. ومع ذلك، تُستورد القمح، وتُهدر المحاصيل بسبب نقص التخزين أو النقل أو الأسواق.
المعادن الأخرى والرمال:
بجانب الذهب، يملك السودان احتياطات كبيرة من الكروم، والنحاس، والحديد، والمعادن النادرة. أما الرمال السودانية، فقد بدأت تدخل في صناعات دقيقة مثل الألواح الشمسية والألياف البصرية في دول كبرى مثل اليابان وألمانيا. ومع ذلك، لا توجد استراتيجية وطنية لتوظيف هذه الكنوز.
الخلل: أين يذهب كل هذا؟
الخلل الأكبر ليس في الموارد، بل في غياب الرؤية المركزية لإدارتها. الأسباب متعددة:
1. غياب مؤسسات قوية وشفافة تُعنى بالثروات الوطنية.
2. تعدد الجهات التي تتقاسم النفوذ على الموارد (بين مدنية وعسكرية، ومحلية ومركزية).
3. التهريب عبر الحدود وضعف الرقابة الجمركية والأمن الاقتصادي.
4. استثمار أجنبي غير منضبط، يُستنزف أكثر مما يُنمي.
ولعل الأدهى، أن هذه الموارد – بدل أن تكون سندًا للتنمية – أصبحت في بعض الأحيان وقودًا للصراعات والنزاعات المسلحة.
الرؤية المقترحة: وزارة للأصول الوطنية
آن الأوان أن يتم تأسيس وزارة متخصصة تُعنى بـ "الأصول الوطنية"، تكون مهمتها:
وضع سياسة وطنية موحدة لإدارة الذهب، المعادن، الثروة الحيوانية، الزراعة، والرمال.
ضبط الإنتاج والتصدير، وتحقيق العدالة في التوزيع بين الولايات.
مراقبة التهريب، وتعزيز الشفافية والرقابة.
الشراكة مع القطاع الخاص الوطني بشروط تحفظ السيادة الاقتصادية.
هذه الوزارة يجب أن تكون مستقلة تمامًا عن المحاصصات السياسية، وتخضع للمساءلة الدورية، وتُبنى على الكفاءة لا الولاء.
القوات المسلحة... حامية الموارد كما هي حامية الأرض
الجيش السوداني لم يكن يومًا طامعًا في ثروات البلاد، بل هو الضامن الحقيقي لأمنها واستقرارها.
لذلك فإن تكليفه بالإشراف على الموارد الاستراتيجية، خاصة في المراحل الانتقالية التي تضعف فيها المؤسسات، يُعد إجراءً منطقيًا وضروريًا لحماية الثروات من النهب أو الاستغلال الخارجي.
من الطبيعي أن نأتمن من ضحى بروحه دفاعًا عن الوطن، على موارده.
القوات المسلحة تملك البنية التنظيمية والانضباط الإداري لتأمين عملية استخراج، تخزين، وتصدير الثروات الحساسة.
يمكن إنشاء هيئة اقتصادية سيادية تشرف عليها القيادة العامة للجيش، تعمل بشفافية مع الحكومة المدنية، وتخضع لتدقيق محاسبي دوري.
التجارب الدولية: كيف تفعلها الدول الأخرى؟
النرويج: تملك صندوقًا سياديًا لإدارة عائدات النفط، لا يُصرف منه داخل البلاد مباشرة، بل يُستثمر عالميًا، ويُعاد توزيعه وفق احتياجات الشعب المستقبلية.
بوتسوانا: نجحت في تحويل عائدات الألماس إلى تنمية وطنية من خلال شراكات ذكية مع القطاع الخاص، وشفافية مالية عالية.
الإمارات والسعودية: طورتا قطاعات التعدين من خلال هيئات متخصصة ذات استقلال مالي، واستقطبتا خبرات عالمية، مع الحفاظ على السيادة على الثروة.
: لا تنقصنا الثروة بل الرؤية والإرادة
السودان لا يحتاج إلى معونات خارجية بقدر ما يحتاج إلى قرار وطني شجاع يعيد تنظيم البيت من الداخل.
حين تُدار الموارد بالعقل والوطنية، لا يمكن لأي حرب أو حصار أو أزمة أن تُسقط دولة تمتلك مثل هذه الكنوز.
وهنا، تصبح المعادلة واضحة:
ثروات + إدارة وطنية = سيادة + تنمية + استقرار
فهل نملك الإرادة لنصوغ هذه المعادلة من جديد، ونكتب تاريخًا جديدًا لسودان يستحق الأفضل؟
مشاركة الخبر علي :