
حديث الساعة إلهام سالم منصور تكتب: تداعيات الحرب في السودان: الأثر السياسي، الاجتماعي والاقتصادي بين السلبيات والإيجابيات وسبل الخروج من النفق المظلم
منذ أن اندلعت شرارة الحرب في السودان في أبريل 2023، دخلت البلاد نفقًا مظلمًا لم تتبين نهايته بعد. حربٌ ضروس مزقت نسيج الدولة، وألقت بظلالها الثقيلة على الحياة اليومية للمواطن السوداني، فحولت المدن إلى ساحات معارك، والمواطن إلى لاجئ أو نازح داخل وطنه، وأضحت البلاد عنوانًا دائمًا على شاشات الأخبار ضمن قوائم الدول المنكوبة.
هذه الحرب لم تكن مجرّد صراع مسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل كانت زلزالًا ضرب أعماق الدولة في بنيتها السياسية، وهياكلها الاقتصادية، وقواعدها الاجتماعية، لتعيد طرح أسئلة كبرى حول مفهوم الدولة، والهوية، والعدل، والمستقبل.
أولاً: الآثار السياسية – بين الانهيار وبوادر الوعي
السلبيات:
تفكك الدولة ومؤسساتها: تلاشت سلطة الدولة في معظم أقاليم السودان، وتحولت الكثير من المناطق إلى جزر معزولة خاضعة لسلطة السلاح، لا القانون.
الفراغ الدستوري والسيادي: تعدد مراكز النفوذ وغياب سلطة مركزية موحدة عزز من حالة الفوضى، وأضعف السيادة الوطنية.
تآكل الثقة الشعبية: سقطت النخب السياسية والعسكرية في أعين المواطنين، بعدما فشلت في إدارة الانتقال الديمقراطي وتحقيق تطلعات الثورة.
الإيجابيات:
نهوض الوعي السياسي: ارتفعت درجة الوعي الشعبي، لا سيما في أوساط الشباب، حول ضرورة بناء مشروع وطني شامل يتجاوز الاصطفافات الضيقة.
تشكل قوى مقاومة جديدة: ظهرت حركات وتنظيمات مدنية تقاوم الحرب وتحمل رؤى وطنية تنشد السلام والعدالة، كصوت بديل للنخب التقليدية.
اقتناع الجميع بأن الحوار لا السلاح هو الطريق: بات واضحًا أن الحل العسكري لا يبني وطنًا، وأن التوافق الوطني هو المخرج الوحيد من دوامة العنف.
ثانيًا: الأثر الاقتصادي – من الانهيار إلى فرص البناء
السلبيات:
انهيار المنظومة الاقتصادية: تدهور سعر صرف الجنيه السوداني بشكل مريع، وانهارت حركة الإنتاج، وشُلّت التجارة الداخلية والخارجية.
تصاعد الفقر والبطالة: فقد ملايين السودانيين مصادر دخلهم، وارتفعت نسب البطالة، بينما شحّت المواد الأساسية وارتفعت أسعارها بشكل جنوني.
خروج الاستثمار الأجنبي وتدمير البنية التحتية: لم تسلم المصانع، ولا الأسواق، ولا المرافق العامة من آثار الحرب، خاصة في الخرطوم ودارفور، التي تحولت إلى رماد.
الإيجابيات:
فرصة لإعادة النظر في بنية الاقتصاد: قد تشكل الأزمة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، والانتقال من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي مستدام.
صعود المبادرات المحلية: ظهرت مبادرات مجتمعية تدعم الزراعة المحلية، وتحث على الاكتفاء الذاتي، وتعزز ثقافة الاعتماد على الذات.
ثالثًا: الأثر الاجتماعي – الجراح العميقة وبذور التضامن
السلبيات:
تفكك النسيج الاجتماعي: الحرب غذّت الخطابات العنصرية والقبلية، مما عمّق الانقسامات وأضعف التماسك الاجتماعي الذي كان إحدى سمات السودان.
مأساة النزوح والتشريد: أكثر من سبعة ملايين مواطن فقدوا منازلهم، وأصبحوا نازحين داخليًا أو لاجئين في دول الجوار، في ظروف إنسانية قاسية.
فوضى أمنية وجنائية: تفكك مؤسسات الضبط الاجتماعي، وانتشر السلاح، مما ساهم في زيادة معدلات الجريمة والعنف في المجتمع.
الإيجابيات:
تعاظم دور المجتمع المدني: في ظل غياب الدولة، برزت المبادرات الشبابية والنسائية والإنسانية التي لبّت نداء المتضررين، وخلقت شبكات دعم مجتمعية فعّالة.
وحدة شعبية ضد الحرب: رغم كل الانقسامات، توحّد غالبية السودانيين على رفض الحرب والمطالبة بالسلام، في مشهد يعكس وعيًا جمعيًا في طور التشكل.
السودان... لماذا هو مطمع؟
ليس غريبًا أن يكون السودان موضع أطماع، فتاريخه وجغرافيته وموارده تجعله هدفًا دائمًا للمتدخلين.
ثروات هائلة: من الذهب إلى النفط والمعادن، ومن الأراضي الزراعية الواسعة إلى المياه العذبة.
موقع جغرافي استراتيجي: يتوسط أفريقيا والعالم العربي، ويمتلك نوافذ حيوية على البحر الأحمر.
تنوع عرقي وثقافي: إن أُحسن توظيفه، يشكل مصدر قوة لا ضعف، لكن غياب المشروع الوطني جعله مصدرًا للتجاذب والانقسام.
الأسباب الحقيقية للأطماع والتدخلات:
هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها: ما سهّل تغلغل المصالح الأجنبية في مفاصل القرار الوطني.
غياب الرؤية الوطنية الجامعة: ظل السودان بلا مشروع دولة موحد، مما أضعف الانتماء المشترك.
الفساد وسوء الإدارة: أديا إلى انكشاف السيادة الوطنية أمام التدخلات الخارجية.
تحول البلاد لساحة صراع إقليمي ودولي: بفعل غياب القرار السيادي المستقل، أصبحت أرض السودان ميدانًا لتصفية الحسابات.
كيف نخرج من هذا المأزق؟
رغم قتامة المشهد، فإن الطريق إلى الخلاص يبدأ بخطوات واضحة وشجاعة:
1. وقف فوري للحرب عبر اتفاق ملزم وشامل يضمن هدنة دائمة، ويوقف نزيف الدم.
2. إطلاق حوار وطني لا يقصي أحدًا، يشارك فيه الجميع من دون استثناء، لبناء دولة مدنية ديمقراطية على أساس المواطنة لا المحاصصة.
3. إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة والكفاءة، وتفكيك شبكات الفساد والتمكين.
4. إعادة إعمار البلاد بمشاركة الكفاءات الوطنية في الداخل والخارج، والاستفادة من التجارب الدولية.
5. تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، كشرط أساسي لأي سلام دائم.
6. بناء مشروع وطني جامع يؤمن بالتنوع، ويضع المواطنة المتساوية حجر الزاوية في مستقبل السودان.
رغم الدمار الذي خلفته الحرب، لا يزال الشعب السوداني يثبت أنه شعب لا يُكسر. فالمأساة كشفت جوهره المقاوم، وروحه المتعطشة للسلام والعدالة. وربما، في قلب هذا الجحيم، يُولد الأمل.
إن بناء السودان من جديد ليس مهمة مستحيلة، لكنه يتطلب وعيًا صادقًا، ونيّات خالصة، وتضافرًا شعبيًا غير مسبوق. السودان بلد عظيم، وشعبه جدير بالحياة الكريمة، ولا نهوض له إلا بوحدة أبنائه وإرادتهم.
مشاركة الخبر علي :