
د.سعاد فقيري تكتب: محمد طاهر إيلا.. سيرة رجل دولة رحل بصمت

رحل محمد طاهر إيلا كما يرحل الكبار بصمتٍ مهيب، لم يكن رحيله مجرد حدثٍ عابر في الذاكرة السياسية السودانية، بل مثّل لحظة تأمل في مسيرة أحد أكثر الشخصيات الإدارية تميزاً في تاريخ السودان الحديث، الرجل الذي جمع بين الانضباط العسكري والدقة الإدارية والرؤية التنموية المتوازنة.
أولاً: السيرة والمسار
ولد محمد طاهر إيلا في بورتسودان بولاية البحر الأحمر، المدينة التي ستصبح لاحقاً مرادفاً لاسمه ومشروع عمره. درس الاقتصاد في جامعة الخرطوم، فامتلك رؤيةً تنمويةً واقعية جعلته مختلفاً عن كثير من الساسة الذين اكتفوا بالشعارات. دخل معترك العمل العام مبكراً، وتدرج في الوظائف الإدارية حتى تولى ولاية البحر الأحمر، التي شكّلت نقطة التحول الأبرز في مسيرته.
ثانياً: إدارة البحر الأحمر.. من المحلية إلى النموذج
حين تسلم إيلا قيادة ولاية البحر الأحمر، كانت الولاية تعاني من ضعف البنية التحتية، وغياب الخدمات، وتردي الوضع البيئي والصحي. غير أن الرجل أدرك أن التنمية لا تبدأ بالمال، بل تبدأ بالإرادة.
فأطلق مشروع "بورتسودان السياحية"، وأعاد تخطيط المدينة لتصبح وجهة اقتصادية وسياحية، مطوّراً الطرق والميناء، ومحسّناً البيئة الحضرية، ومجدداً خدمات المياه والكهرباء.
كما تبنى سياسات إدارة رشيدة للموارد، فقلص الهدر في الإنفاق، ورفع من كفاءة الأداء الحكومي، وكان صارماً في متابعة التنفيذ، حتى صار نموذجاً للانضباط الإداري في السودان.
لم يكن إيلا مجرد والٍ في البحر الأحمر، بل أصبح رمزاً للمدرسة الإدارية التنموية التي تؤمن بالفعل قبل القول، والإنجاز قبل الوعود.
ثالثاً: تجربة رئاسة الوزراء.. بين الطموح والقيود
حين تولى رئاسة الوزراء في أواخر عهد البشير، وجد نفسه في مفترق طرق سياسي معقد، فالدولة كانت على حافة الانهيار الاقتصادي، والشارع يغلي بالغضب.
ورغم ضيق المساحة، حاول إيلا أن يدير الحكومة بعقلية رجل الدولة لا الحزبي، فدعا إلى الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد، وإلى تحييد الجهاز التنفيذي عن الصراعات السياسية. إلا أن الظروف المتسارعة والانقسامات حالت دون أن يحقق رؤيته بالكامل، لينسحب بصمته المعهود، كما عاش دائماً... بصمت الكبار.
رابعاً: ملامح شخصيته
كان إيلا هادئاً، صارماً، وعملياً. لا يؤمن بالخطابة ولا يهوى الأضواء، لكنه يترك أثره بالنتائج.
عرف عنه ميله إلى الانضباط والتخطيط بعيد المدى، وحرصه على متابعة التفاصيل دون أن يغرق في الروتين. كما كان محبوباً شعبياً في البحر الأحمر بسبب قربه من الناس، ومتابعته لمشاريع التنمية بنفسه، حتى في أبعد القرى.
خامساً: إرثه الإداري والتنموي
سيبقى محمد طاهر إيلا رمزاً من رموز الإدارة الرشيدة في السودان.
لقد أثبت أن التنمية ليست ترفاً ولا شعاراً، بل ثقافة وسلوك إداري متكامل.
مشاريعه في بورتسودان ما زالت شاهداً على أن الرؤية الواضحة والالتزام بالمسؤولية يمكن أن يصنعا فرقاً حتى في ظل محدودية الموارد.
كما يُحسب له أنه كان من أوائل من دعوا إلى اللامركزية الفعلية في إدارة الولايات، وإلى تمكين الإدارات المحلية من مواردها، وهو ما يتوافق مع مفاهيم الحكم الرشيد الحديثة.
سادساً: الرحيل بصمت
رحل إيلا بصمتٍ يليق بالكبار. لم يبحث عن ضوءٍ يبرر سيرته، ولم يترك وراءه ضجيجاً سياسياً. ترك ما هو أثمن: تجربة تُدرّس في الانضباط الإداري، ونموذجاً للقيادة التي تجمع بين الحزم والتواضع، بين الوطنية والعمل الصامت.
الخاتمة :
رحم الله محمد طاهر إيلا، فقد كان صفحةً مضيئة في كتاب الإدارة السودانية، ورجلاً أدرك أن الوطن يُبنى بالأفعال لا بالأقوال.
نم قرير العين أيها البحّار الذي جعل من بورتسودان مرسىً للحلم، ومن العمل العام عنواناً للشرف والمسؤولية.
مشاركة الخبر علي :