
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي يكتب: السودان وتركيا.. شراكة لا تقبل الاحتمالات.
تُعد العلاقة السودانية التركية واحدة من أكثر الشراكات الإقليمية الواعدة التي ما تزال رهينة الحسابات السياسية أكثر من كونها خاضعة لرؤية استراتيجية نابعة من الواقع السوداني ومتطلبات المرحلة.
فعلى الرغم من أن تركيا لم تُخفِ في أي وقت حرصها على تعزيز وجودها في السودان، سواء من خلال دعمها للحكومة السودانية ، أو عبر توسيع استثماراتها في مجالات الطاقة والزراعة والتعليم، إلا أن الجانب السوداني لم يُظهر القدر الكافي من الجدية على إدارة هذا الملف بما يتناسب مع حجمه وأبعاده.
لقد كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم في ديسمبر 2017 علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، باعتبارها أول زيارة لرئيس تركي منذ استقلال السودان، كما جاءت محمّلة بإشارات عملية، تمثلت في اصطحابه لوفد اقتصادي ضم 200 من رجال الأعمال وتوقيع 12 اتفاقية تعاون في مجالات متعددة، واهتمام واضح بإحياء الأواصر التاريخية من خلال زيارته لمدينة سواكن. ومع ذلك فإن غياب آلية واضحة للتنفيذ، وافتقار الجانب السوداني لإرادة سياسية متسقة، جعلا الكثير من تلك الاتفاقيات تتراجع إلى مستوى النوايا.
رغم التحديات واصلت تركيا دعمها للسودان، وكان موقفها واضحاً بعد اندلاع الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع التي حاولت بدعم إقليمي الاستيلاء علي السلطة في أبريل 2023. حيث أعلنت أنقرة موقفاً داعماً للدولة السودانية ومؤسساتها، وتُرجم ذلك لاحقاً من خلال زيارات متكررة للرئيس عبد الفتاح البرهان إلى أنقرة، وصفقات توريد طائرات بيرقدار التركية التي ساهمت في قلب المعادلة الميدانية لصالح الجيش السوداني في معارك حاسمة لاستعادة العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وسنار.
ولم يقتصر الحضور التركي على البعد الأمني، بل امتد إلى المساهمة الفعلية في جهود إعادة الإعمار، حيث أعلنت الشركات التركية عن استئناف نشاطها في مشاريع تنموية متوقفة، أبرزها إعادة تأهيل مصنع “أصلان” للجبص، الذي عاد للإنتاج في العاصمة السودانية، كرمز لصمود الاستثمارات التركية وثقتها في مستقبل السودان.
كما شهدت الفترة الأخيرة تنامياً ملحوظاً في الاهتمام التركي بقطاع التعليم العالي، حيث عبّر السفير التركي مؤخرًا عن استعداد بلاده لدعم الجامعات السودانية المتضررة من الحرب، وتوسيع التبادل الأكاديمي والطلابي، ما يعكس إدراك تركيا لأهمية القوة الناعمة في ترسيخ علاقاتها بعيدة المدى مع الدولة السودانية.
وفي سياق أكثر دلالة على الجدية التركية في المساهمة الفعلية في مشروعات البنية التحتية، يجري حالياً تنفيذ مشروع محطة كهرباء كلانيب بولاية البحر الأحمر، بطاقة إنتاجية تصل إلى 350 ميغاواط، عبر شركة تركية متخصصة، وهو مشروع استراتيجي، يعكس وعياً جيوسياسياً بأهمية البحر الأحمر كمجال حيوي مشترك. إن هذا المشروع يضع تركيا في موقع الشريك التنموي الحقيقي، ويؤسس لإمكانية تكرار التجربة في الولايات السودانية الأخرى ظلت تحتاج إلى إعادة تأهيل بنية الطاقة وقادرة على استيعاب خطط الإعمار.
ورغم هذا الجهود إلا أن تعاطي الحكومة السودانية مع هذا التقارب ظل يتسم بعدم الوضوح، ويبدو أن بعض دوائر القرار في الخرطوم لم تدرك بعد حجم الفرص الكامنة في هذه العلاقة. وهو ما انعكس في تباطؤ تنفيذ العديد من الاتفاقيات، وضعف التنسيق المؤسسي، ما أضعف الأثر المتوقع لهذا التعاون، رغم أن الاستثمارات التركية تجاوزت ملياري دولار، وشملت 288 مشروعاً في مختلف القطاعات.
إن استمرار هذه الديناميكية الإيجابية في العلاقات الثنائية يقتضي معالجة الثغرة الأكبر في الجانب السوداني، وهي غياب الجهة المركزية المؤسسية المنوط بها إدارة العلاقات مع تركيا. ومن هنا يبدو ضرورياً أن يُعاد تنظيم هذا الملف بما يضمن التنسيق بين المؤسسات الحكومية، والقطاع الخاص، ورئيس الدولة. وفي هذا السياق، يمكن أن تُناط المسؤولية المباشرة بهذا الملف إلى هيئة الصناعات الدفاعية السودانية، لما تملكه من خبرة وعلاقات قائمة مع الجانب التركي، خاصة في مجالات التكنولوجيا الدفاعية والاتفاقيات الصناعية المتعلقة بإعادة تأهيل البنية التحتية.
كما يمكن أن يتولى الفريق أول ركن ياسر العطا، عضو مجلس السيادة، الإشراف السياسي المباشر على ملف العلاقات السودانية التركية كمبعوث خاص للرئيس، بالنظر إلى خلفيته العسكرية والدبلوماسية، وقدرته على التفاوض والتنسيق على أعلى المستويات. ذلك ربما يحاكي الجهود النوعية التي ظل يبذلها الفريق مهندس إبراهيم جابر، الذي يتولى ملفات اقتصادية حساسة، وأحدث فيها اختراقات مهمة على مستوى الشراكات التنموية.
إن تأخر السودان في استثمار موارده الضخمة، وموقعه الجيوستراتيجي، وعلاقاته السياسية مع قوى إقليمية مثل تركيا، ليس فقط يُهدر فرصاً تنموية هائلة، بل قد يجعله يدفع ثمناً باهظاً إذا ما اضطر للجوء إلى شركاء آخرين في توقيت غير مناسب، أو ضمن سياقات إقليمية مشوشة لا تخدم مصالحه على المدى البعيد. لذلك فإن الوقت لا يسمح بمزيد من التلكؤ أو التردد، فالعالم لا ينتظر، والفرص لا تُكرر، والشركاء الحقيقيون لا يُتركون في الانتظار، خاصةً إذا كانوا موضع ثقة واحترام لدى السودانيين.
وفقًا #لوجه_الحقيقة، تكمن أهمية القيادة الموحدة في إدارة هذا الملف الحيوي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية السودان الوطنية للنهضة، وليس مجرد أداة في لعبة التوازنات الدولية. تمتلك تركيا الأدوات والخبرة اللازمة لتقديم الدعم في مجالات إعادة الإعمار والتنمية. ورغم التحديات المستمرة، بقيت تركيا شريكًا استراتيجيًا ثابتًا في دعم السودان. لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه العلاقة، يجب أن تتحول من مجاملات دبلوماسية إلى شراكة مؤسساتية مبنية على أهداف استراتيجية ، تضمن استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا مستدامًا، متجاوزةً بذلك حدود التعاون الظرفي والاستجابات المرحلية.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 13 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com
مشاركة الخبر علي :