
*عِبَرٌ ومواعظُ حربِ الجنجا!!*.. *عودة مادة التربية الوطنية كمادةٍ أصيلة في المنهج المدرسي، والتدريب العسكري (الكديت) كنشاطٍ غير صَفِّي في المرحلة الثانوية، ضرورةٌ تقتضيها احتياجات المرحلة!!*
*العنوان أعلاه مطالبةٌ قديمةٌ متجددةٌ سبق أن طرحتها في عددٍ من المقالات، ولكنها – فيما يبدو – لم تجد الأذن الصاغية لدى المسؤولين والحكام. واليوم نُجدِّد هذه المطالبة الملحّة مرةً أخرى، لأن المرحلة تقتضي ذلك، ولأنها واحدة من المواعظ والعبر التي يمكن الاستفادة منها من تداعيات هذه الحرب الغريبة الأطوار والأفعال، لإعادة صياغة جديدة للأمة السودانية واتباع سياسة جديدة للدفاع والذود عن حياض الوطن عندما ينادي النداء في أيام المحن والكروب وفي المراحل الحرجةٍ التي تقتضي إحياء الشعور الوطني وغرس التربية الوطنية والانضباط في نفوس أبنائه، حفظا لشرف الوطن وكرامته.*
*خاصةً أن الحرب لا تزال مشتعلة، وتكالب الأعداء وتربصهم بالسودان لا يزال قائما، وما أحدثته الحرب من دمارٍ وخرابٍ يحتاج لسنواتٍ عديدةٍ لتجاوزه ولعلّ من عظيم سرورنا أن تتزامن هذه المطالبة مع تغيير اسم (وزارة التربية والتعليم) إلى المسمى* *الجديد (وزارة التربية الوطنية والتعليم) فأيُّ تربيةٍ وطنيةٍ نَنشد إذا لم نسعَ لغرس هذه القيم الوطنية العالية في نفوس طلابنا وأجيالنا القادمة وتجاوز كل إخفاقات تخبنا السياسة الفاشلة على مر التاريخ ،والتي أدناها الزود بالدماء والأرواح في سبيل أن يبقى الوطن شامخا عزيزا، وفي ذات الوقت تنمية العقول وإحياء قيم الوطن بالانضباط والمسؤولية؟*
*إنها مطالبةٌ طبيعيةٌ تقتضيها ما حدث للسودان من دمارٍ وخراب وزلازل وبراكين ، وتحقيقا لذلك، فهي لا تحتاج إلى مالٍ أو إمكانيات، فرأسمالها العزيمة والإصرار وتناغم أجهزة الدولة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا للدولة، خاصةً وأن الحكومة القائمة الآن ترفع شعار "حكومة الأمل"، وأيُّ أملٍ نرتجيه غير وطنٍ حرٍّ يسع الجميع ومبنيٍّ على الانضباط والمسؤولية وحب الوطن والتربية الوطنية الحقة؟*
*لا بدّ من الاستفادة من تداعيات الحرب، وأخذ عظاتها وعبرها لإحداث التغيير المطلوب في أمة السودان.*
*ويكمن تنفيذ المقترح في شقّين:*
*الشق الأول:*
*يتمثل في إعادة مادة التربية الوطنية كجزءٍ أصيلٍ في المنهج المدرسي، وتحويلها من مادةٍ هامشيةٍ خجولة توضع في مؤخرة الجدول المدرسي إلى مادةٍ أصيلةٍ لها كينونتها وهيبتها، وتُضمن في صلب الجدول المدرسي وقلبه النابض ، وتكون إجبارية للمساقين العلمي والأدبي، ويجلس لها الطلاب في امتحان الشهادة الثانوية مثلها مثل الكيمياء والفيزياء والتاريخ والجغرافيا(الآن لا وجود لها في المدارس والمنهج المدرسي !!) .*
*الشق الثاني:*
*يتمثل في عودة نشاط التدريب العسكري للطلاب المعروف باسم "الكديت"، الذي كان يُطبّق في المدارس الثانوية في ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، بحيث يتواءم الشقّان ويلتقيان في أهدافٍ وطنيةٍ ساميةٍ وراسخةٍ ومشتركة.*
*فالشق الأول المتعلق بمنهج التربية الوطنية يضعه خبراء في المناهج، ويُبعَد عنه أي شبهةٍ حزبيةٍ، ويركزون على تنوع الثقافات والسحنات في السودان ومحاولة انصهارها في قالبٍ وحدويٍّ أخّاذ، لتكون مصدر قوةٍ ومنعةٍ لا مصدر خلافٍ وصراعٍ وشتات.*
*أما الشق الثاني المتمثل في التدريب العسكري فيحتاج إلى توفير القليل من المعينات، مع بعض الإضافات العسكرية والكادر الفني والخبرات العسكرية، لرفع درجة الإشراف من (صول) بالمعاش كما كان سائدًا في الماضي، إلى ضابطٍ عظيمٍ من ضباط الجيش المتقاعدين، ممن يمتازون بالفهم والوعي، ليبتدروا برامج وطنيةً خالصةً بعيدةً عن الأجندة الحزبية، تتسق مع واقع المرحلة التاريخية العصيبة التي نعيشها الآن فكثيرٌ من الضباط العظام الذين انتسبوا إلى القوات المسلحة السودانية في الماضي كانوا من خريجي مدرسة الكديت.*
*الطلاب الذين يجلسون لامتحانات الشهادة الثانوية الآن يقارب عددهم خمسمائة ألف طالبٍ وطالبة، وإذا أضفنا إليهم طلاب الصفين الأول والثاني في المرحلة الثانوية في جميع ولايات السودان، يصبح عدد طلاب المرحلة الثانوية يقارب المليون ونصف المليون طالبٍ وطالبة.*
*وإذا استثنينا انخراط الطالبات في التدريب العسكري الإلزامي – بالرغم من أن العنصر النسائي يمكن أن يخوض مثل هذه التجربة – فإن ما يشهده عالم اليوم من تطورٍ جعل المرأة والرجل يركبان "في سرجٍ واحد"، وأصبحت المرأة تُقارع الرجل في المجالات كافة، بل وتتفوق عليه أحيانا ؛ فمعارك اليوم التي تقوم على الطائرات المسيَّرة والدانات والرادارات والتشويش لم تعد تعتمد على القوة الجسدية والعضلات، ويمكن "لكنداكات" السودان أن يخضن هذه التجربة بتفوقٍ ونجاحٍ وامتياز*
*وإذا تجاوزنا كل ذلك واقتصرنا التجربة على العنصر الرجالي فقط، فسيكون لدينا – بعد كل عامٍ دراسي – أكثر من مليون شابٍ تجري في دمائهم حبُّ الوطن والوطنية والشعور بالمسؤولية وما هو مطلوبٌ فقط هو إصدار القرار ووضع حصة "التربية الوطنية" ضمن المنهج المدرسي، على أن تُخصَّص لها حصتان أسبوعيا أو أكثر ، وليس بالضرورة أن تتزامن مع النشاط غير الصفي الآخر المتمثل في التدريب العسكري لتلقي الفنون العسكرية النظرية، مثلها مثل المواد غير الصفية الأخرى كالتربية الرياضية والنشاط.*
*كما يمكن تسخير الفترات الصباحية التي تسبق الجدول الرسمي، وأيام العطلات، للتدريب العملي والتمارين والبروفات لتجويد هذه المهمة وإتقانها، مما يسهم في إعداد كوادر منظمة ومؤهلة إلى جانب التحصيل الدراسي المعتاد، ووضع معايير تربوية صارمة لإنجاح المشروع الوطني العظيم ؛ بشرط ألا يكون إلزاميا لجميع الطلاب، ويُترك لهم الخيار؛ إما الانتساب إليه بقناعة، أو تركه بقناعة كما كان سائدا من قبل وحتى إذا تم إلزاميا، فسيكون مجرد إجراءٍ مؤقتٍ تتطلبه المرحلة الراهنة التي نعيشها الآن، والتي لا نتوقع أن تزول آثارها قريبا، فالوطن يحتاج إلى كل سواعد أبنائه خلال الفترة القادمة من أجل البناء وإعادة التعمير؛*
*ولا مناص من تحقيق هذه القيم النبيلة التي لا تأتي إلا من بوابة التعليم، وما أدراك ما التعليم وعزم أهل الرشد في بلادنا العزيزة !*
*فالأفضل لنا في سودان اليوم – سودان ما بعد الحرب – وخلال الخمسة أعوام القادمة، وهي الأعوام التي ربما نحتاجها لإعادة تعمير السودان وإصلاح ما أفسدته الحرب، أن نُخرّج الملايين من الفرسان والنجباء والاذكياء المزودين بالمسؤولية والوطنيةوالعلم والتجربة ، والمستعدين في أي لحظة لتلبية نداء الوطن، بدلاً من أن نعود إلى ذات الممارسات القديمة فنُخرّج في كل عامٍ جيوشا من حملة الشهادات النظرية التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، وكثيرٌ منهم أسرى القلق والانحراف أو عُطالى لا حيلة لهم ولا قوة، يتسكعون في الشوارع ويملؤون الطرقات، قبل أن تُفاجئنا الحرب مرةً أخرى على حين غِرّة ونحن في غيّنا وأحلامنا سابحون.*
*ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.*
*بقلم/ مبارك صباحي*
*اكتوبر ٢٠٢٥م*
مشاركة الخبر علي :