
منصور سليمان الكاشف يكتب: *حكومة المأموريات: حين تُفرغ الخزينة وتُصدر البيانات للتنصل*
في 18 أكتوبر 2025، صدر بيان توضيحي من المكتب الصحفي لوزارة الثقافة والإعلام والسياحة، يعلن فيه أن الوزارة ليست مسؤولة عن مهام الناطق الرسمي باسم الحكومة، رغم مرور ثلاثة أشهر على تشكيل حكومة الأمل. البيان، الذي جاء متأخرًا، لم يكن توضيحًا بقدر ما كان محاولة للتنصل من مسؤولية غياب الشفافية خلال فترة شهدت فيها البلاد سفرًا حكوميًا مكلفًا، وتلاعبًا بالمنصات الرسمية، وصمتًا مريبًا عن أداء الحكومة.
في الأيام الماضية، غادر وفد رفيع المستوى من مجلس الوزراء البلاد، وعلى رأسه رئيس الوزراء نفسه، في مأمورية خارجية استمرت أكثر من 15 يومًا.
وبحسب التقديرات الرسمية:
تكلفة اليوم الواحد لكل فرد: 500 دولار
عدد أفراد الوفد: 10 وزراء ومرافقين
المدة: 15 يومًا
الإجمالي: 500 × 15 × 10 = 75,000 دولار
وهذا دون احتساب تذاكر السفر (درجة رجال أعمال)، والإقامة الفندقية، ومصاريف التمثيل والبروتوكول، وبدل السفر الإضافي.
رئيس الوزراء يعف من تقاضي راتب بالجنيه السوداني، لكنه يعود ليطالب بالدولار مقابل مأمورية خارجية.
الحكومة تصدر بيانًا بعد 90 يومًا لتقول إن الوزارة غير مسؤولة عن الناطق الرسمي، رغم أن المنصات الرسمية كانت تُستخدم خلال تلك الفترة لترويج نشاطات الوفد.
البيان يتحدث عن "الشفافية"، بينما لم يُنشر أي كشف حساب للمأمورية، ولا نتائج ملموسة لها.
الشعب السوداني يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، بينما تُصرف عشرات الآلاف من الدولارات على سفر وفود حكومية.
غياب المحاسبة والرقابة البرلمانية يجعل من هذه المأموريات نمطًا متكررًا للاستثمار الشخصي في العملة الصعبة.
البيان الوزاري الأخير لا يبرر الغياب، بل يفضح التهرب من المسؤولية، ويؤكد أن الحكومة تفتقر إلى التنسيق المؤسسي.
يجب نشر كشف حساب تفصيلي لكل مأمورية حكومية.
يجب تحديد الجهة المسؤولة عن إصدار البيانات الرسمية.
يجب فتح تحقيق برلماني أو شعبي في الإنفاق الحكومي الخارجي.
يجب مساءلة الوزراء الذين شاركوا في المأمورية، ومراجعة نتائجها.
إن ما جرى خلال الأشهر الثلاثة الماضية لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تعيشه البلاد، حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتغيب الشفافية، وتُستخدم المأموريات الخارجية كأداة لتكريس الامتيازات الشخصية على حساب المصلحة الوطنية. فبينما ينتظر المواطن السوداني تحسين الخدمات، وضبط الإنفاق، ومحاسبة المقصرين، تنشغل الحكومة بإصدار بيانات تبريرية، وتغيب عن تقديم كشف حساب حقيقي.
إن البيان الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام والسياحة، رغم لغته الهادئة، يكشف عن خلل بنيوي في التنسيق الحكومي، ويؤكد أن هناك وزارات تُحمّل مسؤوليات لا تملك صلاحياتها، بينما تُدار الملفات الحساسة من خلف الستار، دون مساءلة أو وضوح. وهذا ما يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: من المسؤول عن غياب الناطق الرسمي؟ من يقرر المأموريات؟ ومن يراقب الإنفاق؟
وإذا كانت خمسة عشر يومًا فقط قد كلّفت الدولة أكثر من خمسة وسبعين ألف دولار، فكيف يمكن الحديث عن وجود عملة صعبة في البلاد؟ وكيف يمكن تبرير استمرار السفريات الخارجية بهذا النمط، في ظل شح الموارد، وتدهور سعر الصرف، وعجز الميزانية؟ إن استمرار هذا النزيف المالي لا يهدد فقط الخزينة، بل ينسف ما تبقى من الثقة في مؤسسات الدولة.
ويجب كذلك تسمية من هو الناطق الرسمي للدولة الذي يتبنى بيانات الحكومة، وتوضيح سبب غيابه عن المشهد الإعلامي، ولماذا لم يكشف الوزير خالد الإعيسر هذه الحقيقة منذ اليوم الأول لتوليه المنصب، خاصة أن منصات الدولة الرسمية خلال تلك الفترة كانت تُستخدم في خلق الفتن، وزرع الأكاذيب، وتلفيق الأخبار الزائفة التي طالت قيادات وشخصيات تنفيذية، دون أي مساءلة أو تصحيح. إن هذا التلاعب الإعلامي لا يمكن فصله عن غياب المسؤولية، ويجب أن يُفتح فيه تحقيق مستقل، لتحديد من كان يدير تلك المنصات، وبأي صلاحيات، ولمصلحة من.
إن حكومة الأمل، التي جاءت بشعارات الإصلاح والشفافية، مطالبة اليوم بأن تثبت صدق نواياها، لا عبر البيانات، بل عبر الأفعال. والمطلوب ليس فقط توضيح المهام، بل كشف الحقائق، ومحاسبة من يستغل موقعه لتحقيق مكاسب شخصية، سواء بالدولار أو بالمنصب.
الشعب السوداني لا يُخدع بالشعارات، ولا يُسكت بالبيانات. بل ينتظر كشفًا تفصيليًا لكل مأمورية، ولكل دولار خرج من الخزينة، ولكل قرار اتُخذ باسم "الهيكلة" أو "الرؤية". وإن لم تتحرك الجهات الرقابية، فإن الصحافة الحرة، والضمير الوطني، سيظلان في مواجهة هذا العبث، حتى تُستعاد الثقة، وتُسترد الأموال، ويُعاد الاعتبار للمسؤولية الحقيقية.
وفي الختام، لا بد من القول: إن من يرفض الجنيه ويطلب الدولار، لا يمثل شعبًا يعاني من التضخم، بل يمثل نفسه. ومن يصدر بيانًا ليتنصل من مهام وطنية، لا يستحق أن يكون في موقع المسؤولية. وإن لم تُفتح ملفات الإقالة، فإن التاريخ سيفتحها، ولن يرحم من فرّط في الأمانة.
مشاركة الخبر علي :