
*هذا مقالي* *عبدالعال مكين* يكتب: *الفساد السياسي*
لم يكن الفساد السياسي يوماً خلقاً طارئاً على جسد الدولة، بل هو جرح قديم في جسد الوطن يتجدد نزفه كلما غابت القيم والاخلاق، وتقدمت المصلحة على المبدأ والمقصد، وكلما تحوّل المنصب من تكليفٍ لخدمة الناس إلى تذكرةٍ للثراء الحرام والنفوذ الطاغي.
الفساد السياسي ليس مجرد رشوةٍ أو صفقةٍ مشبوهة، بل هو فلسفةٌ خفية تسكن العقول قبل أن تسكن المكاتب، وتزيف الوعي والحقيقة، قبل أن تزيّف الأوراق و الاختام، إنه حين تتلون الحقيقة بلون الحزب، ويختزل الوطن في شخص، وتصبح السلطة باباً للمجد الشخصي لا وسيلةً لخدمة الشعب.
وحين تصاب الدولة بداء الفساد، يتبدل وجهها الجميل؛ يهاجر الصادقون، ويترقى الماكرون، ويصمت الشرفاء لأن الكلام صار تهمة، والسكوت صار نجاة، تتآكل الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويغدو الولاء أهم من الكفاءة، والمجاملة أرفع من الصراحة، وحينها يختطف القرار الوطني من أيدي الشعب ليصبح بيد قلةٍ لا ترى إلا نفسها.
وللفساد السياسي وجوهٌ كثيرة:
وجه في الانتخابات حين تشترى الأصوات وتباع الضمائر، ووجه في التعيينات حين تقدَّم القرابة على الكفاءة، ووجه في المؤسسات حين يفرغ القانون من معناه ويصبح مجرد لافتة، وكلها وجوه تعيدنا إلى المربع الأول، حيث يضيع العدل ويهان المواطن.
غير أن أخطر ما في الفساد السياسي أنّه يقتل الأمل في التغيير، ويزرع في النفوس شعور العجز، حتى يظن الناس أنّ الفساد قدر لا يرد، وأن الإصلاح حلم بعيد، لكن التاريخ يخبرنا أن الأمم لا تنهض إلا حين تضع الفاسدين في خانة الخيانة، وتعيد تعريف الشرف على ضوء العدل والمواطنة.
إنّ مواجهة الفساد ليست حملةً مؤقتة، ولا شعاراً يرفع في موسم الغضب، بل مشروع وطني دائم، يقوم على إصلاح الضمير قبل القانون، وتطهير النفوس قبل المؤسسات، فالقانون بلا ضمير كالسيف في يد أعمى، لا يصيب موضع الداء، بل يزيده نزفاً.
وما لم تتطهّر السياسة من أدرانها، فلن تثمر عدلاً ولا نهضة، ولن يزدهر الوطن في ظل ظلمٍ يتزيا بلباس الشرعية، فالإصلاح يبدأ من الإنسان؛ من وعيه، وإيمانه، ورفضه أن يكون شاهد زورٍ على وطنٍ يسرق في وضح النهار.
سيأتي يوم — إن صدقت النوايا — نرى فيه الوطن نقياً من أدران السياسة الملوثة، ويعود القرار إلى أصحابه الحقيقيين: الشعب، حينها فقط، تشفى الجراح، وتسترد الدولة كرامتها، ويعلو صوت المبدأ فوق همس المصالح.
فالفساد السياسي، مهما طال زمنه، لا يصمد أمام إرادة شعبٍ يعرف أن الوطن أكبر من كل فاسد، وأبقى من كل سلطةٍ عابرة،
ذلك وعدُ الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. *فتّكم بعافية*
*الا هل بلغت اللهم فاشهد*.
مشاركة الخبر علي :