حديث الساعة تحليل: مخطط تقسيم السودان بين الحقيقة والسراب
منذ اندلاع الحرب العبثية التي أحرقت الأخضر واليابس في وطننا السودان، تكاثرت الأحاديث والوثائق المسربة عن "مخطط تقسيم السودان" وكأن الوطن الكبير أصبح كعكة تتقاسمها الأيدي الأجنبية والمصالح الإقليمية. فهل نحن فعلاً أمام مشروع حقيقي لتقسيم السودان، أم أن ما يُتداول مجرد سراب يُراد به إضعاف الجبهة الداخلية وبث روح الإحباط بين أبناء الوطن الواحد؟
الحقيقة التي لا جدال فيها أن السودان، بتاريخِه الممتد وثرواته الهائلة وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، ظل مطمعاً لكثير من القوى الدولية والإقليمية. فبعد أن تمكنت بعض الجهات من فصل الجنوب في 2011 تحت شعارات "الحرية والعدالة"، عادت اليوم ذات الجهات لتحرك خيوط اللعبة من جديد ولكن بثوب مختلف، عبر دعم مليشيات مسلحة وزرع الفتن القبلية وإشعال النزاعات في دارفور وكردفان والشرق.
إنّ المخطط الحقيقي لتقسيم السودان لا يُنفذ بخطوط على الورق، بل يُنفّذ على الأرض عبر إنهاك الدولة وتمزيق نسيجها الاجتماعي. فمن يراقب الوضع الحالي يرى أن الخرائط الجديدة تُرسم بالدماء، لا بالحبر، وأنّ كل صراع محلي يُراد به تحويل منطقة ما إلى "إقليم مستقل" أو "إدارة ذاتية" تمهيداً للتقسيم الناعم.
لكن لا يمكن الحديث عن مؤامرة التقسيم دون التطرق إلى دور الخونة ومن يبيعون الوطن، أولئك الذين فتحوا الأبواب لأجندات الخارج مقابل مصالح شخصية ومكاسب زائلة. هؤلاء لا يحملون سلاحاً فحسب، بل يحملون مشاريع الهدم في عقولهم وقلوبهم، ويعملون بوعي أو بجهل على تفكيك الدولة من الداخل.
فمنهم من يتآمر في الظلّ لتقويض مؤسسات الدولة، ومنهم من يمدّ المليشيات بالسلاح والمال والمعلومات، ومنهم من يروّج للدعاية المضللة عبر الإعلام والمنصات الإلكترونية ليبث الشك واليأس بين الناس. هؤلاء الخونة يبيعون الوطن بالقطعة، يتاجرون بمعاناة المواطن، ويحوّلون القضايا الوطنية إلى صفقات ومكاسب آنية.
ويأتي في مقدمة هؤلاء فئة السياسيين الانتهازيين الذين خانوا القسم، فضلوا الكرسي على الوطن، وأداروا ظهورهم لقضايا الشعب العادلة. يليهم تجار الحروب الذين جعلوا من الدم تجارة ومن الخراب سلعة، يتنقلون بين العواصم بحثاً عن صفقات تخدم أجندات خارجية لا تمتّ لمصلحة السودان بصلة.
أما الإعلام المأجور فهو سلاح الخيانة الأخطر، إذ يقوم بتزييف الحقائق وتلميع العملاء، وبث السموم الفكرية التي تسعى لتفكيك الوعي الوطني. وكل هذا يصب في هدف واحد: تهيئة الرأي العام لقبول فكرة التقسيم كأمر واقع، وكأن الوطن أصبح عبئاً لا يمكن الحفاظ عليه.
إن الخيانة ليست فعلاً عابراً، بل منظومة مصالح مترابطة تُغذّي الفوضى وتستثمر في معاناة الشعب. إنها جريمة ضد التاريخ وضد الإنسانية، لأن من يبيع وطنه لا يبيع أرضاً فقط، بل يبيع ذاكرة وهوية ومستقبلاً كاملاً لأجيال قادمة.
لكن رغم كل ذلك، فإن السراب لا يصبح حقيقة إلا إذا صدّقه الناس. وما زال السودان، رغم الجراح، أكبر من كل المؤامرات. فالشعوب التي أنجبت رجال الكرامة والبطولة قادرة على أن تقطع دابر الخيانة، وتعيد بناء الوطن من تحت الركام، بعزم وإيمان وصبر.
إن المعركة اليوم ليست فقط مع الخارج، بل مع الداخل الذي يحاول أن ينزف الوطن من خاصرته. وكل مواطن واعٍ هو جندي في معركة الوعي ضد الخيانة والتقسيم. فالوطن لا يُحمى بالشعارات، بل بالفعل والإخلاص والموقف الشريف.
وفي الختام، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل تقسيم السودان قدر محتوم؟ أم مجرد سراب يُستخدم لتخويفنا وتشتيت صفوفنا؟
الجواب يكمن في إرادتنا نحن، في مدى إيماننا بأنّ السودان ليس حدوداً جغرافية، بل روح وهوية واحدة لا يمكن تقسيمها.
*الهام سالم منصور *
الخميس ٢٩ اكنوبر ٢٠٢٥
مشاركة الخبر علي :
