Irish Coffee
عادل عسوم
من المهم لكل من يريد السفر إلي دولة ما أن يقرأ شيئأ عن ثقافة و لغة تلك الدولة، وقد فعلت ذلك خلال استعدادي لأول رحلة لي إلي آيرلندا الجنوبية، ولكن على الرغم من ذلك أوشكت بأن أقع فى فخ مقلب القهوة الأيرلندية (irish coffee)، وإليكم القصة...
انتهت بنا رحلة الخطوط البريطانية (British Airways) إلي مطار هيثرو في لندن، وبالتحديد في (Terminal 3) حيث كانوا يجمعون القادمون من أفريقيا والشرق الأوسط في هذه الصالة، ولأواصل الرحلة من هيثرو - بواسطة الخطوط الآيرلندية (Aer Lingus)- بعد فترة إنتظار تربو على الأربع ساعات في صالة انتظار صغيرة -لعلها- خاصة بالخطوط الآيرلندية، ولم أكن متضايقاً من طول فترة الانتظار لأعتيادي على حمل كتاب أو أكثر أقوم بقراءتها خلال الرحلة، ويومها كان معي كتاب اسمه (نحو علم نفس اسلامي) تمكنت من قراءة نصفه في الطائرة قبل أن أخلد إلي غفوة صغيرة، وعزمت على اكمال نصفه الآخر خلال فترة الإنتظار في صالة مسافري الخطوط الآيرلندية،
جلست بجوار مقصف (بار) صفت امامه مناضد باللون الأزرق والأبيض، وعلى الرغم من كوني هلالابي الهوى -هلال السودان وليس هلال السعودية- بدت لي القاعة التي يغلب عليها اللون الأزرق والأبيض مشابهة للقاعات الخاصة بدولة الكيان الصهيوني، وقد اعتدت النفور من قاعاتهم في كل مكان اجدها فيه صدفة.
بمجرد جلوسي جاءتني نادلة يبدو أنها آيرلندية وسألتني ماذا أشرب؟
فسألتها - وبراءة الأطفال في عيني- ماذا لديكم؟
فشرعت تعدد لي أسماء كل خمور الدنيا قاطبة، ثم ختمتها بكلمة (IRISH COFFEE)،
بيني وبينكم فضّلت القهوة الآيرلندية (طلباً للسلامة)...
فجاءتني بها، شكلها العام قهوة عادية كسواها من أنواع القهوة، فوضعت الكتاب جانباً وقرّبت الكوب إلي فمي...
فإذا برائحة الكحول تقتحم أنفي بشدة، فأبعدت الكوب مندهشا، ثم تلفتُّ يمنة ويسرة أبحث عمن (يشرب) بجواري، فلم أجد سوى شابة عربية تهدهد رضيعها،
فأعدت الكرة لشرب قهوتي الآيرلندية، فإذا برائحة الكحول أقوى في الفنجان، فوضعته علي المنضدة ممتعضاً، وإذا بي أسمع ضحكة من ام الرضيع الجالسة بجواري وهي فلسطينية، اقتربت منى وهى تقول:
-السلام عليكم.
-عليكم السلام ورحمة الله.
-ألم تشرب قهوة آيرلندية من قبل؟
فأجبتها بالنفي... فإذا بها تضحك مرة أخرى وتقول:
القهوة الآيرلندية قهوة مخلوطة بالكحول!...
فحمدت الله الذي أنجاني بفضله من شرب المقلب!.
وجاء موعد التحرك ...
فانحشرنا فى طائرة ال (Aer Lingus) الصغيرة ...
والرحلات إلى آيرلندا وأسكتلندا تعد رحلات داخلية لبريطانيا، والطائرات تكون دوما صغيرة الحجم، وقد علمت بأن البعض يستغلون كون تلك الرحلات رحلات داخلية فيعمدون - عند العودة من آيرلندا إلي هيثرو- إلى الدخول إلى بريطانيا دون الحصول على تأشيرة دخول، (وقد فعلت ذلك عند عودتي من دبلن إلى هيثروا خلال رحلتي الأولى).
وصلنا إلى مطار دبلن (القديم)، وهو مطار صغير لكنه جميل ومرتب، وبه شاشات عرض تلفزيونية كبيرة على الجدران للتعريف بقوانين البلاد وكذلك لعرض اعلانات المصانع الآيرلندية العديدة، وقد انشغلت بمشاهدتها فخففت عني تعب الوقوف في الصف الطويل في المطار، وقد تم تجديد هذا المطار بعد ذلك بعامين ليصبح مطارا عالميا ومن السعة بمكان، وعند وصولي إلى ضابطة الجوازات أعطيتها جواز سفري فنظرت إلي مبتسمة وسألتني:
Are you a physician?
أي هل أنت طبيب؟
فأجبتها بالنفي ...
وعلمت بعد ذلك بأن اللون الأسمر لدى الآيرلنديين -حينها- أرتبط عندهم بالأطباء السودانيين القادمين بكثرة للدراسات العليا في الMedical Royal Center في آيرلندا...
ولنا أن نعلم بأن عدد الأطباء السودانيين هناك يفوق الألف طبيب بكثير!
كانت وجهتي -دائما- إلى مدينة شانون، حيث مقر شركة Ge Panametrics التي تمثلها الشركة التي اعمل فيها في السعودية، وقد اعتدت القدوم إليها مرارا للتدريب في مصنعها الذي يصنع أجهزة ومسابير/فواحص الMoisture Analyzers، وشانون مدينة صناعية تقع على بعد حوالى الثلاثمائة كيلا من دبلن، وكعادتي عندما أسافر داخل أوربا أفضل ركوب القطار فى غالب تنقلاتي في دول التشنجن لأستطيع الأستمتاع بالرحلة أكثر...
وما أجمل الرحلة عندما تكون في آيرلندا، إذ غالب أرض آيرلندا خضراء ويكمل بهاءها الماء والوجه حسن...
أنطلق بنا القطار على بساط أخضر مترام على مد البصر، وكان الجو - وهو غالباً كذلك- رطبا تكتنفه بعض البرودة، وتبدو من خلال نافذة القطار زخات المطر التي لم تنفك تتنزل حيية منذ خروجنا من دبلن، فاقتربت من النافذة أكثر فإذا بقطعان الأبقار المرقطة تتناثر وسط بساط الخضرة الممتد على مد البصر، ولكم ذهلت عندما علمت بأن أرض أيرلندا - بخضرتها البديعة هذه- لا تصلح للزراعة إلا فى أقل من 5% فقط من مساحتها!!!...
والسبب في ذلك -كما أفدت لاحقا- طبقة يسمونها ال(TURF)، وهي جذور لحشائش تراكمت بمرور الأزمان إلى عمق عدة أقدام لتكون تلك الطبقة...
ويقوم سكان القرى بتقطيع تلك الطبقة من التربة إلى مكعبات متوسطة الحجم وتجفيفها لتستخدم كفحم وكوقود للتدفئة...
الآيرلنديون عادة يعطونك الاحساس بأنك وسط شعب من شعوب المشرق، اذ لا تجد فى أعينهم (عنطزة) بعض الأوروبيين، وقد يكون السبب في ذلك الاستعمار الإنجليزي الذي جثم على صدورهم مئات الأعوام وعمل على محو لغتهم ذات الاصول غير اللاتينية، ثم مالبث أن دق أسفينا في آيرلندا وقسمها إلى جنوبية وشمالية، كما فعل في سواها من الدول كالسودان ونيجيريا، وفي آيرلندا تجد الأسرة الممتدة كما هو الحال في دول المشرق، ووجدت أسرا آيرلندية يصل عدد الاخوة والاخوات فيها إلى الأحد عشر!.
ويقال بأن تعداد سكان آيرلندا كان يبلغ السبعين مليوناُ في بدايات القرن الماضي، لكنه تناقص إلى السبعة ملايين فقط!...
والسبب في ذلك تسمم غذائى أسموه ال(FEMEN) أصابه محصول البطاطس الذي إعتادوا زراعته فى القرون الماضية، ثم بسبب الهجرات الكثيفة إلى أمريكا...
وصلت إلى مدينة ليمريك التي ينتهي فيها خط السكة الحديد فوجدت سائقا يرفع لوحة بإسمي ليأخذني إلى مدينة شانون القريبة، ونزلت في فندق ريفي جميل يسمى (OAK WOOD ARMS)، والترجمة لاسم الفندق:
أيادي غابة (أوك) ...
(وكنت أقلب الألف في كلمة أوك عينا للإستئناس بالإسم)، إذ الحي الذي انتمي إليه في مستقر أهلي في قرية البركل اسمه (عوك)...
قضيت خلال رحلتي الأولى تلك ثلاثة أسابيع جميلة لن تمحى من ذاكرتى، الفندق يطل على نهر شانون الجميل العامر بالحياة، وواجهة الفندق عبارة عن زجاج على شكل عدسة محدبة كبيرة وواسعة ترى من خلالها الصيادين في النهر وكأنهم بجانبك!
وقد قيض لي الله أن تناقشني إبنة صاحب الفندق عن الاسلام فتحدثنا مرارا، وتطور الأمر -بعد سنوات- لتعلن اسلامها أمام صديقي الداعية الإسلامي الإنجليزي يوسف إسلام (وهو المغني السابق كات ستيفنسن)، وقد عرفتي عليه الأستاذ يحي محمد الحسين مدير المركز الاسلامي في دبلن، والاستاذ يحي من أبناء منطقة نوري في الولاية الشمالية، اعتاد الداعية المسلم الانجليزي كات ستيفنز زيادته كثيرا في بيته العامر في دبلن.
ولعلي أواصل لاحقا لأكمل بقية تفاصيل هذه الزيارة إن شاء الله.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :