ظللت لسنوات عديدة اتوقف بين يدي هذه الآية الكريمة، وبطبعي أحتفي كثيرا بالسلام، وبجانب احتفائي بالسلام تحضرني دوما هذه الآية الكريمة التي توثق لوصف الملائكة للبشر:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} البقرة30.
ولكن عندما يأتي السلام (واصفا) لليلة كونية ذات قدر عظيم يفوق أدراك البشرية جمعاء:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
فإن الأمر يحتاج لوقفة.
ورد ذلك ثنايا سورة بديعة أجد في سياقات آياتها تعبيرا فلسفيا ونفسيا عجيبا عن ديناميكية البعد الوجداني في كيان الإنسان، فيه مزج بين العقل والعاطفة، ويثير ذلك الكثيف من كوامن الفكر والخيال لدي التالي والمتدبر لآياتها، يضاف إلى ذلك تعبير فلسفي ونفسي عن ديناميكية البعد المكاني والحركة الكونية، ومن ذلك تنزُّل القرآن من السماء إلى الأرض، وتنزل الملائكة والروح، مما يجعل الملتمس والمتحري لليلة القدر (يوحد) في وجدانه الملموس والمحسوس، وهنا أعود لمقالي السابق لأذكر بالذي غفا لخمس دقائق بجواري وسافر إلى بلد آخر ليعيش فيه عشر سنوات ويتزوج وينجب ويعيش ويتذوق تفاصيل حرام حياة طويلة، وكل ذلك خلال خمس دقائق وليس ليلة كاملة.
دعونا نعود للآية لنسبر غور لفظ السلام لغة، ثم نتلمس مواطن وروده في القرآن الكريم:
لفظ السلام في أصل اللغة يدل على الصحة والعافية، فالسلامة: أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى.
ومن أسماء الله تعالى السلام لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء.
ومن لفظ السلام أيضاً اشتق لفظ الإسلام، وهو الانقياد، لأنه يسلم من الإباء والامتناع.
ولفظ السلام ورد في القرآن الكريم بصيغ مختلفة في 140 موضع، ورد في 112 موضع بصيغة الاسم، ومن ذلك قول الله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} النساء 94، وورد في 28 موضعاً بصيغة الفعل، منها قوله سبحانه: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} النور 27.
ولفظ السلام ورد في القرآن الكريم على سبع معان رئيسة:
1-اسم من أسماء الله.
2-الإسلام.
3- التحية المعروفة.
4- السلامة من الشر.
5- الثناء الحسن.
6- الخير.
7- خلوص الشيء من كل شائبة.
وهذه أقوال المفسرين عن مفردة السلام بناء على ورودها في هذه آية سورة القدر:
قوله تعالى سلام هي حتى مطلع الفجر قيل: إن تمام الكلام من كل أمر ثم قال سلام.
روي ذلك عن نافع وغيره، أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها.
حتى مطلع الفجر أي إلى طلوع الفجر.
قال الضحاك: لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام، أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة.
وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى.
وروي مرفوعا.
وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن.
وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها.
وقال قتادة: سلام هي (أي خير هي).
حتى مطلع الفجر أي إلى مطلع الفجر.
انتهى.
ملاحظتي أن التفاسير تتحدث عن مفردة سلام بكونها وصف لما يحدث في ليلة القدر.
لكن دعونا نعيد قراءة الآية مرة أخرى:
لنعود إلى الآية الكريمة:
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
إن اعراب كلمات الآية تفيد بأن السلام معني ليلة القدر في ذاتها، وليس الأمر وصف لمايحدث فيها:
﴿سَلَامٌ﴾: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ مَرْفُوعٌ وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
﴿هِيَ﴾: ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ.
﴿حَتَّى﴾: حَرْفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ.
﴿مَطْلَعِ﴾: اسْمٌ مَجْرُورٌ وَعَلَامَةُ جَرِّهِ الْكَسْرَةُ الظَّاهِرَةُ.
﴿الْفَجْرِ﴾: مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ وَعَلَامَةُ جَرِّهِ الْكَسْرَةُ الظَّاهِرَةُ.
والمعلوم يقينا أن الكلمات في كتاب الله الخاتم لها مدلولها لكون هذا القرآن كلام الله تعالى، وهذه ليست ليلة عادية، ثم إن الحرص على التأكيد بلفظة (هي) تجعل المتدبر يقف مليا.
أقول والله أعلم بأن هذه الليلة (تتلبث) المدرك لها بصفة السلام يتسرب إلى قلبه ووجدانه إلى أن يلقى الله، ومن وهبه الله السلام فقد فاز، والأمر ليس مرهونا بلحظة انتهاء الليلة (حتى مطلع الفجر) لكون التنبيه قد سبق بأنها (خير من ألف شهر)، وألف شهر ليست مقصودة في ذاتها بكونها تساوي 83 عاما فقط، انما الدهر كله، إذ أن العرب والصحابة ماكانوا يعرفون صفة للأعداد مابعد الألف (كما ورد في المقال الثاني والعشرين).
وبذلك يصبح (الحاصل) على ليلة القدر كالذي شق صدره وتغشى السلام قلبه ووجدانه وكل خلية من خلاياه لينزع منها الافساد في الأرض وسفك الدماء ال(جبلة) الذي وصف الملائكة به البشرية.
آمنت بالله.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :