*حين تستعصى الكلمات٠٠ تتمرد٠٠ تأبى النشيج* *
ألم عظيم،، وكسر لا يجبر،، وجرح نزف لا يلتئم،، لا يحتمله قلب ولا يقدر عليه صبر،، أن يرحل عن دنيانا في زمان واحد صالحان عظيمان في مثل عظمة وبر وبهاء وعطاء شيخ الأمين علي خليفة زعيم حي بري،، البر الفخيم وحاج بابكر أبوعاقلة كبير القضارف،، الطاهر الوسيم..مثلا أخر جيل العظماء العمالقة من رجال المجتمع الأنقياء الأتقياء...
لا أدرى كيف ألح على ذاكرتي ذلك التداعي الكثيف من الخواطر والأحزان وذكريات والدنا بابكر أبوعاقلة تحاصرني تكاد تطبق عليّ البارحة وصوت الناعي يعزيني في رحيله الفجيعة ...
عرفت والدنا حاج بابكر قبل أكثر من أربعين عاماً وأنا في المتوسطة حين كان يصطحبني خالي النور عبدالقادر عليه الرحمة ((صديقه المقرب ورفيقه الأثير في ارتيريا التي هاجرا إليها زماناً طويلاً ومكثا فيها أكثر من ثلاثين عاماً أو تزيد )) إلي مكتبه في سوق القضارف الكبير ،،حتى قويت وعظمت بقدومنا إلي الخرطوم لأعمل معه هو وابنه الصديق المقرب مدثر بابكر أبوعاقلة مستشاراً ومحامياً عن الأسرة ،،هنا تعرفت عليه عن كثب
فشرفني بثقته المطلقة وعاملني بحنو ورقة ولطف واحداً من أبنائه فلزات كبده محمد ومدثر ومتوكل...
تلك كانت سانحة عظيمة أن أجالس رجلاً سمحاً وسيماً قسيماً قرانياً عظيماً تخلق بأخلاق القرآن حتى صار قرأناً يمشى بين الناس بعد أن فتح الله له من باب الخير ما جعله حافظاً لكتاب الله مجوداً له ثم شيخ حلقة في المساجد يعلم الناس التجويد والترتيل والتأويل...
ثم أنه كان كريماً سهلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى متجاوزاً عن الهفوات والخطايا في حلم ولين وصبر.. حكيم في المواقف التي تتطلب الأناة والصفح والرزانة يقابل الناس بوجه طلق :
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أو كما قال زهير بن أبي سلمى...
عم بابكر أبوعاقلة كريم يستر عيوب الناس ويترفع عن الدنايا والبعد عن الشبهات ،،نقي السر والعلن،، طهور الظاهر والباطن لا يوجد بين حياته الخاصة وحياته العامة حجاب ...
محب لأهله وعشيرته الأقربين ظل يقوم بواجبهم دعماً ومساندة لأكثر من ستين أسرة من ذوي القربى في سرية تامة يرفض أن تعلم يده اليسري ما أنفقت عليهم يده اليمنى..
حقاً برحيله فقدت للقضارف رمزاً من رموزها الكبار عاشقاً مغرماً بها براً بأهلها فقد رفض العيش في الخرطوم وأصر أن يرجع لها يرتاح على زخات المطر ويتنسم دعاش خريفها الطيب الهطول.. ما من مجلس صلح إلا وكان عم بابكر عضواً فيه وما من لجنة إعسار إلا واتفق الناس عليه رئيساً لها لصبر وبركة وتطيب خواطر هي من طبعه الرفيق الحنين...
عاش سليم الوجدان موطأ الأكناف زهد في الحياة ولم تطب له مطايبها وهو يعيش تفاصيل حادثة سير ذهب ضحيتها أحد المارة أصابه منها حزناً دفيناً لم تحتمله رقة قلبه الخاشع الرحيم،، فقد ظل يتردد على أسرته يومياً يتفقد أطفاله يرعاهم وينفق عليهم رافضاً الاكتفاء بالدية وتعويض شركة التأمين التى أوفت بالتزامها كاملاً...
عم بابكر عاش حياته رغم الثراء العريض زاهداً فهو بإذن الله لن يكون ممن يقال لهم:((أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا)) عزفت نفسه على مباهج الحياة ونعيمها فانكفى على مطالعة القرآن صابراً على المرض لم يتضجر من طوال الرقاد وضجر السهاد،، شيمته الصبر والاحتساب ،،جواد سخى ظل بيته يستقبل ضيوف القضارف إن أنسى لا أنسى غداة زيارة شيخ حسن عليهما الرحمة الأخيرة للقضارف فقد قال لي أرجو أن تكون منزلته معي لأن الشيخ ظل ينزل معي فقلت له لو كان القرار بيدي لما تأخرت لكن هناك ترتيبات سبقت من وفد مقدمته تهيئة وتأميناً وشكرته بما يستحق من تقدير...
على المستوى الشخصي فقدته أباً رحيماً عطوفاً زارني أكثر من مرة بخيره الكثير وماله الوفير يكفي أن أول سيارة أقتنيها ملكاً لي كانت هدية منه يوم طلب مني الذهاب معه إلي ضاحية الرياض وحين وصلت إليها قال لي يا ((ود أختي العربية دي حقت متوكل أخوك سافر وانت ومتوكل عندي حاجة واحدة شيل العربية من الليلة حقتك وبكرة خلي مدثر يعمل ليك نقل ملكية))٠٠٠
ذاك رجل مضى نشهد الله أنه كان يحبنا ونحبه يؤثرنا ولا يؤثر علينا
قرأت حزنه في عيون الحبيب كرم الله عباس الشيخ ابن أخته صاحب قلب لا يعرف الجزع رأيته البارحة جزعاً حزيناً كيف لا وعم بابكر مثل له الوالد العطوف الحنين قبل الخال النسيب يبادر بنصحه ويبكي لفراقه ويحن للقائه ويسألنا عن حاله ويوصينا به خيراً...
والعظيم الثاني هو العم والوالد والشيخ الأمين علي خليفة الرمز الخالد عاش مخموم القلب تقي نقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ..
مسيرة جهادية حافلة بالعمل الوطني الموصول والتفاني في خدمة أهله وعشيرته.. ارتدى قناع الرصانة : وفي للعهد حفيظ للأمانة صدوق الحديث عفيف اللسان..
محسن باذل طعامه ((للغاشي والماشي)) شجاع لا يخشى المواجهة يقول رأيه بشجاعة :
ثنى يده الاحسان حتى كأنها
وقد قيضت كانت بغير بنان
لا يستكن الرعب بين ضلوعه
يوماً ولا الاحسان أن لا يحسنا
اجتهد حاج الأمين في تنمية مواهبه الفطرية ودعم فضائله باذلاً المعروف للكافة مبذولاً للناس جميعاً دون عسف أو غضب أو لجاجة متوجاً نفسه سيداً وزعيماً روحياً للجميع :
إلا يكون عظمي طويلاً فانني له بالخصال الصالحات وصول
إذا كنت في القوم الطوال علوتهم
بعارفة حتى يقال طويل...
فقد مارس الإحسان في السراء والضراء حتى أضحى الإحسان له سجية.. ذاك سبب كاف جعل بيته قبلة يحج إليها الجميع في حاجاتهم الخاصة وللصالح العام فيستقبلهم ببشاشة وترحاب يسعى جاهداً لتذليل الصعاب فهو من عناهم الشاعر القديم:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى
وأحسن منه كرهم في المكارم
وهم يحسنون العفو عن كل مذنب
ويحتملون الغرم عن كل غارم
من أجل ذلك استعصى على الناس تصنيفه في المفاصلة الشهيرة بين الاسلاميين بعد أن نجح أن يضع نفسه في مسافة واحدة من الجميع منح الشيخ حسن الترابي حقه من التوقير والتعظيم شيخاً على الجميع وحفظ للبشير هيبته وعظمته رئيساً للكافة رافضاً أن يضع نفسه في تيار العاجزين عن العطاء مهرة الغمز واللمز لا ينقطع ضجيجهم هنا وهناك في نقد الآخرين...
ربى أولاده علي فعل الخيرات فأحسن تربيتهم: ايمان يربو وحس يرهف وفؤاد يخشع وعين تدمع...
صبور في النائبات استقبل نبأ حفيده ابن بنته بثينة برباط جأش بعد أن اغتالته المليشيا غيلة داخل منزله قاتلها بضراوة وشجاعة عزت علي الشجعان..
ترددت عليه في المستشفى كان صابراً محتسباً استشعر بدنو أجله ورغم الألم الشديد لم يجذع من الموت بل استقبله بطمأنينة وصبر واستسلام تام بقضاء الله وقدره...
رحل مخلفاً سيرة نبيلة في العطاء والاخلاص والالتزام والتجرد لله وللوطن وللأهل والحركة والجيران
من كرامات الرجلين أن يكرمهما الله بأن يختارهما لجواره يوم الجمعة في رمضان وفي العشر الأواخر منه فقد سبقت رحمته بهما بهذه العطية والمنة.. ربما تسرية ورحمة وشفقة بنا وبأسرهما الرحيمة الكريمة فقد رأينا حجم الحسرة والألم والفقد قد أخذ من ذويهما مأخذاً كبيراً...
رحيل هؤلاء الرجال بحق نقص للخير والمؤنة والمرونة والسعي في حاجة الآخرين...
أخي كرم الله كبرت علي الشعور باليتم لكني أصدقك القول رحيل الوالد بابكر قد أعاده لي مجدداً بذات الاحساس وإنه لاحساس مر المذاق استشعرته وقرأته في عينيك وأنت تسرني ((ألا ألقي عليه نظرة الوداع الاخيرة ياعمر أقسى علي من الموت))...
أسال الله أن يصبرك ويربط علي قلبك ويذهب سخيمته...
اللهم يا رحمن يارحيم أفتح على قبري أبائنا الامين وبابكر نافذة من نسائم بردك وعفوك ورحمتك لا تغلق ولا تسد أبداً ...
تعازينا لمحمد بابكر وأخوانه ولصلاح أبو عاقلة وأخواته ومحمد عباس الشيخ فهو بالطبع يعزى في الفقدين ابنا وصديقا للأسرتين...
وتمتد التعزية لتشمل عثمان وعمر وبخاري الامين واخوانهم ومحمد بابكر واخوانه مدثر ومتوكل وللأسرتين الكريمتين وأصهارهم الكرام...
إنا لله وإنا إليه راجعون...
عمر كابو
مشاركة الخبر علي :