لقد اختلف الصحابة والتابعون رحمهم الله في الفروع وجعلوا لذلك قواعد وأسس، ومنها قاعدة: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"، فلم ينكر أحدٌ منهم على الآخر في الفروع.
والتشريع الإسلامي في أصله مؤسس على أصول وفروع، وشكلَّت الأصول الثوابت الجامعة للأمة، أما الفروع فقد تخللتها مساحات من المرونة والاجتهاد ليُصبح الإسلام صالحاً لكل العصور والظروف والأمكنة، لكنّ الأمة اليوم فى إدارة خلافها في هذه المسألة (الجزئية الفرعية)، فقد أصبحت خلافية ينكر بعضُها على بعض، ويسعى كل فريق لإلغاء رأى الآخر بل صار الاختيار الفقهي فيها معقداً للولاء والبراء، وشاهدا للحب والبغض، ومحددا للاتباع والابتداع، ومعياراً لقياس العلم والتدين، فإن كان الحال هكذا في خلاف في الفروع؛ فكيف سيكون فيما هو أعظم؟ والأصل أن الاختلاف في الفروع ينبغي أن يكون سبيلا مؤدٍ إلى الاجتماع والوحدة، فكيف نجعله سبيلاً للتفرق والتباغض؟
إن مسألة ٱخراج القيمة من عدمها في زكاة الفطر يفترض أن لا يقع بشأنها خلاف، لأن منشأ الخلاف فيها راجع إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه السابقون من الفقهاء، وللنص على العلة التى هي مناط الحكم والعلة في عصرهم متحققة بالحبوب والأصناف الواردة في الحديث، بينما صارت اليوم نفس العلة متحققة بالنقود.
وتوجد أربع مرجحات لدفع زكاة الفطر مالاً في عصرنا الحالي:
1- الترجيح بالنص:
المقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء.
روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:" فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا". قال ابن حجر في الفتح: وعلى غير عادة البخاري في مخالفته للأحناف أن اتفق معهم في إخراج صدقة الفطر نقوداً، وفي جواز إخراج العوض في الزكاة، وبوب البخاري باباً سماه "باب العرْض".
2- الترجيح بكثرة القائلين بجواز إخراج القيمة:
للعلم فإن أبي حنيفة ليس الأوحد القائل بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، بل هناك كثر، ومنهم (صحابة) و(تابعون)، وهذه قائمة بأسماء الفقهاء القائلين بإخراج بالقيمة، وقد أحصاها فضيلة الشيخ الحبيب بن طاهر وهم:
من الصحابة رضوان الله عليهم:
عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل.
وقال أبو إسحاق السبيعي من الطبقة الوسطى من التابعين، قال: أدركتهم ـ يعني الصحابةـ وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام. الدليل:(مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وعمدة القارئ: 9/8).
ومن أئمّة التابعين عمر بن عبد العزيز، فعن قرّة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كلّ إنسان أو قيمته نصف درهم. والحسن البصري، قال: لا بأس أن تعطى الدّراهم في صدقة الفطر، و طاووس بن كيسان، وسفيان الثوري. الدليل:(مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وموسوعة فقه سفيان الثوري: 473، وفتح الباري: 4/280).
ومن فقهاء المذاهب أبو عمرو الأوزاعي، وأبو حنيفة النعمان وفقهاء مذهبه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، والإمام البخاري، وشمس الدين الرملي من الشافعية.
ومن المالكية: ابن حبيب، وأصبغ وابن أبي حازم، وابن وهب.
وقال الشيخ الصاوي: "الأظهر الإجزاء لأنّه يسهل بالعين سدّ خلّته في ذلك اليوم".
وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قرارا بجواز دفع القيمة. قرار 4/23، يونيو 2013م.
3- الترجيح بالقياس:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر) وهو صريح في دفع الأعيان، لكن معاذاً رضي الله عنه فهم قصد الزكاة، ولم يتعامل مع النص على أنه تعبدي غير معلل فقال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس {أنواع من الأقمشة} في الصدقة مكان الشعير والذرة؛ فإنه أهون عليكم وأنفع لمن بالمدينة، وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولئن جاز في الزكاة وهى الأعلى جاز من باب أولى في زكاة الفطر وهي الأدني.
4- الترجيح بالمقاصد:
شُرعت زكاة الفطر لمقصد منصوص عليه في الحديث الصحيح وهو: طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للفقراء والمساكين، وفي الحديث الضعيف على الأرجح: اغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم. فالمقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء تلك الأصناف بثمن أقل، فهل شرعت زكاة الفطر لإغناء التجار على حساب الفقراء، وإضاعة وقت الفقير في عملية التبادل والمقايضة؟ وبوسع الفقير أن يشتري حبوبا بالمال دون خسارة، ولا يسعه أن يحصل على المال إن أخذ حبوبا إلا بالخسارة. إن القول بتعبدية الأصناف المذكورة في الحديث يوقعنا كمسلمين في حرج عدم مناسبة الإسلام لكل زمان ومكان. على أن الرافضين لدفع القيمة يلجؤون لتقصيد العبادة فلا يلتزمون بالأصناف الواردة في الحديث، ويقولون بإخراجها من غالب قوت البلد، وهو إقرار بالتعليل والتقصيد، وهو أساس ودليل دفع القيمة، غير أننا قلنا بالخروج عن الأصناف الواردة في الحديث إلى المال، وهم قالوا بالخروج عنها إلى غالب طعام أهل البلد.
الخلاصة:
من يرى إخراج زكاة الفطر (عينا) من غالب قوت البلد أجزأه ذلك، ومن يريد إخراجها (نقدا) أجزأه ذلك إن شاء الله، ولاحرج في اخراجها في بلد المنشأ -دون بلد الاقامة- إن تبين لمخرجها وجود الأحوج لها، وهو رأي معتبر عند الشافعية، وقد ذهبت إليه العديد من المجامع الفقهية المعاصرة.
ويجوز اخراج زكاة الفطر بدءا من غروب شمس اليوم (28 رمضان) إلى قبيل خروج المصلين لأداء صلاة العيد، وان اخرجت بعد الصلاة فهي صدقة ولاتجزئ.
والله أعلم.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :