ظلت عبارة (رمضاء مكة) عالقة في ذهني منذ الصغر، وكان أول عهدي بها في حصة التربية الاسلامية في المرحلة الابتدائية عندما حكى لنا مدرس الدين قصة تعذيب سيدنا بلال بن رباح وكذلك ووالد عمار بن ياسر وأمه في (رمضاء مكة)، رضي الله عنهم أجمعين، فلا أملك إلا الذهاب إلى الصحراء المتاخمة لمكان سكنانا خلال نهار الجمعة لأقف مليا بين يدي رمال الصحراء مستذكرا قصة هؤلاء الكرام وهم يعذبون، فتغرورق عيناي بالدموع.
عندما وضع العرب أسماء الشهور سمّوها بالأَزمنة وأحوال الطقس، فوافق بعضها موسم الندى والمطر فسموه ربيعًا، ووافق آخر أيام رَمَضِ الحرّ وشدّته فسمّوه رمضان، والرَّمَضُ هو شدّة الحَرّ، ومن هنا سُمي ما تسبّبه الشمس من شدّة الحرارة في الحجارة أو الرمل "رمضاء".
وإذا بي يكرمني الله بالقبول للدراسة في جامعة ام القرى بمكة المكرمة، كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن الماضي...
أوصلني البص من جدة إلى المسجد الحرام، فدخلته من باب السلام معتمرا في اليوم العاشر من رمضان بعد أن افطرت في جدة، ثم تركت حقيبة ملابسي في متجر لبيع الملابس مقابل الحرم، وبمقابل مادي لكل ساعة غياب (إذ لم تكن أماكن حفظ الحقائب قد هيئت حينها)، ودخلت من باب السلام وبيدي حذائي وفي قلبي تحتشد مشاعر شاب ولج لتوه إلى العشرين...
دمعت عيناي واقتحمت حلقي (عبرة) عند ولوجي إلى الصّحن السابح في لُجَّةِ الأنوار، تتوسطه الكعبة المشرفة شامخة ترنو إلى السماء وسواد كسوتها الحريرية ينعكس على رخام الحرم صحنا وحوائط ومآذن، وكلما اقتربت من منطلق طوافي مقابل الحجر الأسود؛ يزداد تكاثف الأنوار، فكأني بنور من الله يتغشى الكعبة، فبدت لي كوكبا دُرّيا يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، وما فتئت الأنوار تتداخل وتصطرخ أمام ناظري إلى أن تغشت الدُنا الخيوط البيض الأولى من الفجر، وكنت حينها فرغت من عمرتي وتهيأت لصلاة الفجر.
وما إن أشرقت الشمس ذهبت إلى حيث يربض سكن جامعة أم القرى في منطقة الحوض(العزيزية)، وكانت الجامعة سنيها داخل المنطقة الحرام قبل أن يتم نقلها إلى الحل من بعد تخرجي فيها بأعوام، وفي مساء اليوم الثاني حرصتُ على الذهاب إلى جبل أبي قبيس لحاجة في نفسي قضيتها...
كنت استصحب الآية الكريمة التي خاطب فيها ربنا سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج 27
منذ أن وقعت عيناي على هذه الآية الكريمة ظل يتردد في دواخلي سؤالٌ:
كيف للناس أن يصلهم أذان نبي الله إبراهيم بالحج يومها؟!
لقد ذكر المفسرون أنه عندما أمر الله إبراهيم عليه السلام الأذان في الناس بالحج، سأل وقال:
- يا رب، كيف أُبَلِّغَ الناس وصوتي لا ينفذهم؟
فقال الله جل في علاه: نادِ، وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قبيس (وهو الأرجح)، وصاح:
(يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه).
فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع الله من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، وكل من كتب الله له أنه يحج إلى يوم القيامة بأن: (لبيك اللهم لبيك).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام؛ هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وهنا حري بي أن أشير إلى عرف من أعرافنا حيث يقول أهلنا عندما يزمع أحدهم الحج:
(فلان ناداه المنادي)!!!
أما أنا فوقفت على جبل أبي قبيس وكأني بالزمان عاد القهقري إلى يوم وقف إبراهيم عليه السلام يؤذن في الناس، وإذا بي يتغشاني النعاس أَمَنَةً، ويتنزل عَلَيَّ من السماء ماء فيطهرني ويذهب عني رجز الشيطان، وربط الله على قلبي وثبت أقدامي، فأسندت ظهري إلى صخرة لاتقي رذاذ المطر الذي شرع في الهطول، وانبرى لي السؤال:
كيف وصل صوت نبي الله إبراهيم إلى الناس حينها وعلى مر السنوات والقرون، ليأتوا إلى بيت الله من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر؟!
قلت لنفسي طالما كان الصوت مادة -والمادة كما هو معلوم لا تفنى إلاّ إذا شاء الله -، فإن الصوت/المادة يظل بعد خروجه من حنجرة صاحبه سابحا في الهواء من حولنا، وهذا يعني أن الفضاء مليء بالأصوات منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تنتظر من يستطيع التقاطها وإعادتها إلى صورتها الأولى؛ وإن كان بعد وفاة صاحب الصوت بمئات الآلاف من السنين، وعلمت من بعد بأن هذا الأمر كان أحد الطموحات العلمية التي سُعِيَ إلى تحقيقها من خلال مشروع إسمه "حرب النجوم" تبناه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
فسألت نفسي:
أليس من الممكن للبشرية أن تستطيع اكتشاف طريقة للدمج بين فيزياء الصوت وكيمياء وبايولوجيا الخلية البشرية لإيصال التردد الصوتي من خلال ال DAN و RNA وبقية مكونات خلايانا؟!
لقد أمرنا الله بالتفكر في الكون وفي ما خلق الله، وجعل ذلك ديدناً لرسله وأنبيائه:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 13الجاثية.
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}61
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}البقرة 163-164.
وشاء لي الله أن أمضي من عمري سنوات خمس في مكة المكرمة، وكنت أحرص كثيرا على تبين مواطن ومعالم سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيها، ومن ذلك زياراتي المتواصلة لمكتبة مكة العامة التي قد لايعلم البعض بناءها على مكان دار عبد المطلب التي قسمها بين أولاده ومن بينهم عبد الله والد نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث ولد نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وزرت مكان دار الأرقم بن الأرقم، وكنت اذهب إلى مسجد الجن مكان نزول آيات سورة الجن، وبحثت إلى علمت مكان الحائط الذي استند إليه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عائد من الطائف حزينا حيث قال:
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وقد اكرمني الله بغرس (شجرة نيم) في عرفات الله في بدايات الثمانينات، ثم عدت إليها في نهاية التسعينات لأجدها شجرة ظليلة، فوقفت تحتها وأنشدت هذه الابيات:
مُدِّيْ غُصونَكِ في دلال
وارفدي الحجاج دوما بالظِلال
وتَمَايَسِي فالأرضُ طهرٌ
وكل السُّوح يَغْمُرُها الجَلال
إنَّها عَرَفاتُ ربِّي
حيثُ يَغْفِرُ ثُمَّ يَهْدِيْ كُلَّ ضَال
الناسُ اذْ سَمِعُوا النِّدَاء من الخليل؛
جاؤه بالضُمُرِ النَّحِيْلَةِ أو رِجال
هتف الخليل عليه من ربي السلام
فارتجّت الأرضُ الخلاء
وكل هامات الجبال
إنه نِعْمُ الأذان
يوم جاء الوادِ قفراً ورمال
وأناخ النوقَ قرب البيت زُلفى
فوقها اسماعيلُ محمودُ الخِلال
هانئ في حضن هاجر
إنها زوج نبي
وهي أمٌّ لنبي
أبشري بالخير، ياااانعم المآل
ومضى الخليل من بعد السؤال
أَدَعَاك ربُك؟!
إذن، فالله لن يخذلنا بحال
فهي تعلمه نبي
إنه بشرٌ،
ولكن فيه احتشدت خِصال
فهو لم يركع لغير الله يوما
وسَعْيُ الرزق دوما في الحلال
وإذا بالنار برد وسلام لا اشتعال
ومضت أيامُ هاجر في الحرم
نفد الطعام ولَبَن الضرع زال
واستبد الجوعُ بالطفل الرضيع
فانبرت لل(سعي) عطشى
سبع مرات سجال
يا إلهي، ليس في الأنحاء إنسٌ
وظهرُ الوادِ من الزّرع خال
وانبرت لله تدعو
فإذا بالماء سال!
مَدَّتْ َأيَادِي الشُّكر طُرّاً
وانحنت للنبعِ تَحثوهُ الرِّمَال
أقعت (تَزُمُّ) الماءَ زَمَّا
لينأى عن السَّوَحَانِ في جوفِ التِّلال
ليتَ هاجَرَ لَمْ تَزُم؛
لاستحال ال(بئرُ) نهراً من زُلال.
عادل عسوم.
عرفات الله.
وإلى اللقاء إن شاء الله في مقال الغد الخاتم لرمضان، أو يكون يوم عيد.
آمنت بالله.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :