آية (الخبيثات للخبيثين) هل المقصود بال
تقول الآية الكريمة: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}الآية 26 من سورة النور.
وجدت مقالا يدور في الفيسبوك (يقصر) كاتبه معنى الخبيث والطيب في آية سورة النور أعلاه على الأقوال (فقط)، وهذا القصر ليس بصحيح.
فالتفسير السليم للآية يدل على (الكلام والأفعال)، وكذلك يدل على كون الخبيثات والخبيثون، والطيبات والطيبون هم (نساء ورجال)، أي المرادان معا، وهناك مايصل درجة الاجماع على هذا المعنى لمراد الآية، وهذا تفصيل ذلك:
هذه الآية وان ذُكرت بعد الآيات التي نزلت في قصة الإفك تأكيداً لبراءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، زوراً وبهتاناً، وبياناً لنزاهتها، وعفتها في نفسها، ومن جهة صلتها برسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك لايجعل المراد قاصرا على الكلمات والأفعال فقط، انما هناك مراد (ثان) للآية الكريمة مكمل للمراد الأول وهو:
أن (النساء) الخبيثات لل(رجال) الخبيثين، والرجال الخبيثون أولى بالنساء الخبيثات، والنساء الطيبات الطاهرات العفيفات أولى بالرجال الطاهرين العفيفين، والرجال الطيبون العفيفون أولى بالنساء الطاهرات العفيفات، والآية على -كلا المعنيين- دالة على المقصود منها، وهو نزاهة عائشة رضي الله عنها عمَّا رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول من الفاحشة ومن تبعه ممن انخدع ببهتانه واغتر بزخرف قوله.
قال القرطبي رحمه الله:
وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} النور الآية 3، فالخبيثات (زواني)، والطيبات (عفيفات).
واختار هذا القول النحاس أيضاً، وهو معنى قول ابن زيد.
(تفسير القرطبي).
كل خبيث من (الرجال والنساء والكلمات والأفعال) مناسب للخبيث وموافق له ومقترن به ومُشاكِل له، وكل طيِّب من (الرجال والنساء والكلمات والأفعال) مناسب للطيب وموافِق له ومقترن به ومشاكِل له، فهذا سياق متصل وحصر لا يخرج منه شيء، والأنبياء عليهم السلام، ومنهم أولي العزم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أفضل الطيبين من الخلق؛ لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بهذا الإفك من قصد المنافقين، فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم يُعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح.
قد يقول قائل:
ان كان المعنى المراد بالخبيث والطيب (الرجال والنساء)؛ ماذا عن امرأة نبي الله نوح ونبي الله لوط عليهما السلام وقد ضرب الله للذين كفروا مثلا بامرأتين كافرتين امرأة نوح وامرأة لوط، وضرب الله تعالى مثلا للذين آمنوا بامرأتين صالحتين، آسية امرأة فرعون الكافر ومريم بنت عمران؛ فكيف يستقيم معنى الآية بكون الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين؟!
الرد على ذلك: أن الخيانة المذكورة في حق امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام ليس الزنى، فقد اجمع المفسرون والعلماء من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نساء الأنبياء معصوماتٌ من الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما ورد ذلك في سورة النور، فخيانة امرأة لوط تتمثل في انها كانت تدل الكفار من قومه على ضيوفه، بينما زوجة نوح كانت تشي بالمؤمنين من قوم نوح للكفار، لذلك لم ينفعهما صلاح نوح ولوط عليهما السلام، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئاً، وقيل لهاتين المرأتين: ادخلا النار مع الداخلين، جزاءً وفاقاً بكفرهما وخيانتهما؛ بدلالة امرأة نوح على من آمن به، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه، لا بالزنى.
فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية، والله سبحانه أغْيَر مِن أن يمكِّن امرأة نبي من الفاحشة؛ ولذلك غضب سبحانه على الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وأنكر عليهم ذلك وبرَّأها مما قالوا فيها، وأنزل في ذلك قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى (فَخَانَتَاهُمَا) قال: "ما زنتا"، وقال: "ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين" ، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم.
قال تعالى: : {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود 46
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:
يريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيَّه نوحاً إلى أن أهليَّة الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتِّباع، وإذا قاس نوح عليه السلام ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابناً له.
ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسي: "سلمان منَّا آل البيت".
إذن: فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتِّباع، لا بنوة نَسَب.
وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى:
{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}.
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله:
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.
فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتاً، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابناً لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتِّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ولو كان عملاً صالحاً لكان ابنه.
وبخاطرة الشيخ الشعراوي هذه يتبين أن الخيانة من امرأة نوح ليست بالزنى.
وقال البغوى في تفسير ذات الآية:
في قول الله عز وجل: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} قرأ الكسائي ويعقوب: "عمل" بكسر الميم وفتح اللام، و"غير" بنصب الراء على الفعل، أي: عمل الشرك والتكذيب. وقرأ الآخرون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينه، و"غير" برفع الراء، ومعناه: أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح، (فلا تسألن) يا نوح، (ما ليس لك به علم).
أنتهى.
وبذلك أيضا يتبين أن الخيانة هنا ليست بزنى.
مما تقدم في تفسير الآيات من كون ابن نوح ليس ابن زنى، وأن عائشة رضي الله عنها برَّأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزنيا وإنما كانتا كافرتين دلت كل منهما الكفار على ما يسوؤهما ويصد الناس عن اتباعهما؛ يتبين أن معنى الخبيث والطيب في الآية يعنى الأمران معا (الكلمات والأفعال) و(النساء والرجال) والله أعلم.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :