هل الأولى اداء الحج، أم التصدق بقيمته بعد أن فاقت المليارات؟
وهل الأولى المساهمة في بناء المساجد أم أن (لقمة في بطن جائع خير من بناء جامع)؟
يخوض البعض هذه الأيام في نقاش يعلم الله في عليائه الذين ابتدروه!، وهناك من يفعل ذلك بحسن نية، ولكن هناك من يفعله مع سبق الاصرار والترصد استصحابا لفكر ومنهج يعتمره ولاهم له بالدين ولا بأركانه.
بالنسبة للحج:
مهما بلغت التكلفة فإن حجة الفريضة أولى من أي صدقة كانت، لكون الحج فرض وواجب بينما التصدق سنة، وعامة الفقهاء وأهل العلم مجمعون على أن القادر على الحج ان مات ولم يحج؛ مات عاصيا لله، فالحج واجب على الفور، وأن من أخره لغير عذر فهو عاص لله تعالى، ومن مات والحال هذه فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر.
ولكن هناك من حكم (بكفر) من قدر على الحج ولم يحج ككفر تارك الصلاة، وذلك عملا بنص الآية الكريمة:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} آل عمران 97.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ.
وهذا مروي عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله.
والله أعلم.
لكن ان كان الحج (نفلا) فلابأس من التصدق بقيمته (ان كانت الحوجة للانفاق ماسة).
أما المقولة (لقمة في بطن جائع خير من بناء جامع) فهي ليست بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولاهي بقول مأثور من صحابي أو حتى تابعي، وهي من حيث الأصل خاطئة مقصدا وفقها، فإن بناء مسجد لأفضل من إطعام جائع، فالمسجد يحقق مصالح المسلمين الدينية، وإطعام الجائع يحقق مصلحة دنيوية، ولا شك أن المصالح الدينية أولى ومقدمة على المصالح الدنيوية، فالدين -والعبادة فيه- مقصود أعظم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 56 الذاريات.
ثم إن إطعام الجائع الواحد أو الجماعة منهم انما نفع (متعد لفئة محدودة ومصلحته محدودة)، بينما بناء المسجد الواحد نفعه متعد لجماعة المسلمين، والمصالح المتولدة عن المسجد متعددة، إنه يحقق مصلحة إقامة الشعائر، وتفقيه المسلمين، وتربيية أبناءهم، وتعليم نسائهم، وجمع كلمتهم، وحلّ مشاكلهم، إضافة إلى اقامة العديد من المناسبات الاجتماعية فيه.
ولا شك أن فعلا يتعدى نفعه إلى عامة الناس والمصالح الناشئة عنه كثيرة؛ لهو أفضل من فعل يتعدى نفعه فئة قليلة والمصالح الناشئة عنه أقل.
قال عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
"كل مطيع لله محسن إلى نفسه، فإن كان إحسانه متعديا إلى غيره تعدّد أجره بتعدد من تعلق به إحسانه نفسه، وكان أجره على ذلك مختلفا باختلاف ما تسبّب إليه من جلب المصالح ودرء المفاسد"
ثم إن إطعام الجائع يعد صدقة (غير جارية) من حيث الأصل، أمّا بناء المسجد فهو صدقة جارية يبقى أجرها مستمرا يلحق الباني ما بقي هذا المسجد.
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) رواه ابن ماجه وحسّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه".
وما سبق ذكره -من المفاضلة- هو من حيث الأصل، لكن الأولى والأفضل هو القيام بهما (معا) إذا كانت هناك قدرة.
قال عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
"إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل".
لكن إذا تعارضا ولم يمكن القيام إلا بواحد منهما، فهنا يرجع إلى الترجيح بين هذه المصالح كما تم تفصيله أعلاه، فالبلدة التي أصابتها مجاعة تهدّ قوة أهلها وتقعدهم عن الحركة؛ فإن إطعامهم أولى من بناء مسجد لهم، إذ أن موتهم بسبب الجوع مفسدة لا يمكن تداركها، أما بناء المسجد فيمكن تداركه في المستقبل.
نصيحة:
أقول للذين يخوضون في هذا الأمر (بحسن نية)، ويستغل البعض فيهم مشاعر الحنو على الفقراء والمساكين؛ هناك أناس لاهم لهم البتة بالحج، ولاتحدثهم أنفسهم عن هذا الركن من الاسلام، وقد تجد منهم الذي بلغ السبعين من عمره ولم يحج!، ومنهم من حاله مع المسجد كحال الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 114البقرة
لذلك أنصح بأن نتبين الفكر والحزب الذي ينتمي إليه كل الذين يحرصون على تخذيل الناس عن الحج وعن بناء المساجد، فستجدونهم ناقمون أيضا على الزكاة، والحشمة، بل ومؤسسة الأسرة بكاملها حيث يتنادون بال(فيمينزم)!.
انهم لايعلمون بأن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب!
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}الحج 32
وللعلم فإن الأحرص على الحج وبناء المساجد منا هم الأحرص على اطعام الجوعى والانفاق على مختلف أوجهه، لننظر حولنا ونتبين ذلك يا أحبابي...
اللهم أجعلنا ممن يحرص على أركان الاسلام وشعائره، واجعل قلوبنا رحيمة، وألسنتنا ذاكراة لك وشاكرة ومسبحة بحمدك.
قولوا آمين
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :