على الرغم من الأحزان، وبرغم هول المصاب في الشهداء رحمهم الله، وعلى الرغم من الفقد الأليم في الدور ومافيها، وعلى الرغم من آلام النزوح واللجوء؛ علينا استقبال العيد بالفرح والابتسام، إنه أمر الله لنا يا أحباب، الله تعالى الذي سبق إلى علمه كل ماحدث لنا ومايحدث على وجه هذه الأرض بما رحبت من أحداث، قال جل في علاه:
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج 32
وهذا العيد بالذات ومافيه لمن شعائر الله، وبأمر ربنا فإن تعظيم شعائر الله يجلب ال(تقوى للقلوب)، والتقوى هي سبب السعادة، والنجاة، وتفريج الكروب، والعز، والنصر في الدنيا والآخرة، كما قال ربنا جل في علاه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب} الطلاق 2-3
قال بعض السلف: هذه الآيات أجمع آية في كتاب الله، وما ذاك إلا لأن الله رتب عليها خير الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله جعل له مخرجا من مضائق الدنيا ومضائق الآخرة.
ابن باز رحمه الله
وهناك العشرات من الآيات في كتاب الله تدعو وتحث المسلم إلى الفرح ونبذ الحزن بحسبان الفرح موئل -في ذاته- للطاعة، وبالفرح يمكن للمسلم نيل رضوان الله، وهاهي الابتسامة في وجوه الناس قد جعلها الله صدقة، وما أدراك ما الصدقة!، ولسرور تدخله إلى قلب مسلم لمن أحب الأعمال إلى الله، والله قد جعل جبر الخواطر مدعاة لحبه ورضاه، وجعل الله السعي في حاجة الناس واجلاء لأحزانهم افضاء بفاعله إلى الاستظلال بظله يوم لاظل إلا ظله.
ها هو العيد يا أحباب يقبل علينا والحرب بحول الله مؤذنة بالرحيل، والقتال كُرْهٌ كما قال الله، لكنه تعالى قال فيه أيضا عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، وإن في قول الله تعالى: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} لنهي عن الأسى/الحزن، وهو كذلك نهي عن الفرح عندما يتجاوز الحدود، فإن الحزن شقاء لا فائدة من ورائه، وفيه عدم رضى بقضاء الله وقدره، ومن دعاء نبينا عليه الصلاة والسلام (وأعوذ بك من الحزن ...)، ولم يرد مدح للحزن لافي القرآن ولا في السنة، فلنجعل من العيد يوم فرح وسرور...
لن أنس يوم أمسكت زوج جدي برأس شقيقي الأصغر وكان يبكي يوم العيد فأخذته إلى حجرها ومسحت دموعه وسعت حثيثا لتثنيه عن حزنه وبكائه وهي تقول:
يااااولدي ماتبكي يوم العيد، عشان العيد تاني مايجينا صاد ويلقانا حزانا!...
إنها الفطرة السليمة يا أحباب، إنه ركوز معاني الدين ومقاصده في وجدان هذا الشعب الجميل الدواخل، كيف لا ومافتئ المغنون فينا يرددون:
ورا البسمات كتمت دموع...
فلسنا شعب يردد قول المتنبي:
عيد بِأَية حال عدت يا عيد
بما مضى أَم بِأَمر فيك تجديد...
ولسنا كذلك من يردد قول الشاعر:
يا عيد عذراً فأهل الحيِ قد راحوا وإستوطن اﻷرض أغراب وأشباح
ياعيد ماتت أزاهير الربى كمداً وأوُصِدَ الباب ما للباب مفتاح.
انما نحن شعب يتغنى ويقول:
بكرة ياقلبي الحزين تلقى السعادة
وعيني تشبع نوم بعد ما طال سهادا...
لأن سألنا السائلون لم نراكم بهذه السكينة؟
فلنقل بأننا قرأنا قول الله تعالى: {يدبر الأمر} فتركنا الأمر لصاحب الأمر سبحانه...
وقرأنا كلام ربنا: {إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا} فأيقنا بأن العسر لن يغلب يسرين، وانه لآت لامحالة...
وقرأنا قول ربنا: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} فاطمأنت قلوبنا ...
وقرأنا: {فما ظنكم برب العالمين} فأصبحت كل ظنونا بالله خيرا، وإن الله رب الخير لايأت إلا بالخير.
لأن قال قائل بأن طاعة الله في كل الأديان يغلب عليها التعسير لا التيسير، وأنها مرهونة برهق أداء الشعائر والطاعات، ويكتنفها تعب البحث عن الحِلْ والحرمة، وفي ذلك تقييد وحجر على الحرية؛ فإن ديننا بغير ذلك تماما، وقد كان ذلك مثار نقاش بيني وبين أحد رؤساء الأقسام في شركة ألمانية اسمها Western Research، مقرها في مدينة صغيرة لا تبعد كثيرا عن فرانكفورت إسمها إدًر سايم، اعتدت زيارة تلك الشركة كثيرا فتوثقت علاقتي بجل موظفيها، ومنهم رئيس قسم إسمه ك. هاناماير، اجتمعنا يوما على مائدة العشاء في مطعم بالجوار بمعية 4 ألمان من منسوبي الشركة، وللرجل احترام كبير تبينته في تعامل كل منسوبي الشركة معه، وعلمت بأنه يشغل موقعا مرموقا في الكنيسة، لكن كان يملؤه كره غريب للإسلام!، والألمان بطبعهم لايكثرون الكلام إلا في مايلي العمل، لكن علاقتي بهذا الرجل كانت مميزة، وعلى الرغم من كرهه الذي يظهره للاسلام تبينت في عينيه ولغة جسده رهق السعي للبحث عن الحقيقة، ولحسن حظي -يومعا- بدأ نقاشنا بخبر عن انتحار شاب في الليلة السابقة، هذا الشاب سبق له العمل في ذات الشركة قبل سنوات ويعرفه جل موظفوها، وخلال وجودي معهم كانت أخبار داعش تملأ الآفاق، فشرع هاناماير في الحديث عن الإسلام بكونه دين دموي لايدعو للإقبال على الحياة بل إلى الموت، وبينه وبين الفرح ورفاه النفس البشرية وحريتها بعد المشرقين.
رددت عليه قائلا:
أترى الشاب الذي انتحر بالأمس؟، هل عليه عقوبة لو قدر لانتحاره ان لا ينجح؟
- لا بالطبع.
- لماذا؟
- لأنه حر، ومن حقه فعل ما يشاء طالما هذه رغبته ولم يسع للإضرار بسواه.
قلت له:
- هل تعرف أن الإسلام يحرص- بل يلزمنا- بحفظ خمس أشياء يسميها الكليات أو الأصول أو الضرورات الخمس، وهي (النفس والعقل والنسل والمال والدين)، وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، وبالتالي فإن في دفعها مصلحة، والحفاظ عليها من أسباب استقامة مصالح الدنيا والعباد، ويكون الحفاظ على النفس والعقل بعدم فعل اشياء أثبت العلم ضررها، ومن ذلك تعاطي المخدرات وشرب الخمر، وغير ذلك من الموبقات، ويحاسب المسلم إن سعى إلى فعل ذلك أو تسبّب في اهلاك نفسه.
رد الرجل قائلا:
- أليس في ذلك حجر على الحريات؟
- الإسلام لاينظر للنفس البشرية بأنها ملك لصاحبها، بل هي ملك لخالقها، ومن يضر بعقله أو بنفسه كأنما أضر بنفس بشرية أخرى، ثم قلت له:
- ألا تسعى الدولة هنا في المانيا إلى منع الأبوين من الإضرار بطفلهما ويسمى ذلك بالانجليزية بال Child abuse، وتعاقب الأبوين ان سعيا إلى التسبب في الإضرار بطفلهما؟.
تشاغل الرجل بمافي يده ثم سعى إلى تحويل مسار النقاش قائلا:
- لكن الاسلام انتشر بحد السيف وارغام الناس عليه؟!
رددت عليه:
إن كان الاسلام جاء بالسيف؛ لماذا نجد العديد من البلدان التي فتحها المسلمون بقي العديد من أهلها على دينهم؟! كالأقباط في مصر مثلا، والعديد من المسيحيين واليهود في جل الدول التي دخلتها جيوش المسلمين؟!
سكت الرجل ولم يجب...
ثم واصلت قائلا: لعلمك العديد من المسلمين في صدر الاسلام ظلوا يعذبون في رمضاء مكة لسنوات، وحينها لم يكن الله قد أذن لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال -حتى- وان كان دفاعا عن أولئك، فمات عدد منهم بسبب التعذيب.
ثم إن المسلمين وجدوا انفسهم بعد ذلك محاطون بقبائل تترصدهم، وحضارتين تترصد الاسلام وأهله، وكانت الحرب معهودة في تلك الأزمان، وطلبت منه قراءة ماذا كتب المسلم الفرنسي الدكتور روجيه/ رجاء جارودي رحمه الله عن أدب القتال في الإسلام وماذا كانت تفعل جيوش المسلمين خلال قتالها ائتمارا بدينها من عدم قتل لكبار سن او نساء أو أطفال، وعدم تعذيب للأسرى في وقت لم تكن فيه قوانيين أمم متحدة ولا هيئة أمم!...
وتواصل نقاشنا حول رؤوس أقلام أخرى لعلي كتبت عنها في مقال سبق.
وكانت معنا مسؤلة إدارية -ستينية- لم تشارك في النقاش، لكنها كانت تتابعنا بحرص شديد، وهي بطبعها هادئة وصَمُوتَة، قالت لي بعد انقضاء الاسابيع الثلاثة وخلال وداعي لبعض الموظفين المباشرين كل على حدة في مكتبه؛ إنها استفادت كثيرا من نقاشي مع هاناماير، وأنها مهتمة كثيرا بالإسلام منذ فترة، وبحمد الله علمت بأنها أسلمت بعد ذلك بعام، وهي في الأصل من مدينة هامبورق حيث يوجد مركز الطريقة البرهانية.
والعيد يا أحباب حري به أن يكون مناسبة لإنهاء الخصومات بين الناس، وخير المتخاصمين من يبدأ رفيقه بالسلام، ولعل الحال الآن أنسب حيث كان يمكن أن يموت احدهم في هذه الحرب، وإثم الخصومة يزداد ويعظم أكثر عندما يكون بين الأرحام ولسنوات، وقد عدّ الإسلام صلة الرحم بالواجبة الوصل، وحرّم القطيعة وجعلها من الكبائر التي تُدخل صاحبها النار، ومن وصل رحمه وصله الله ومن قطعخ قطعه الله!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء1.
كم ينسى الرجال أخوات وشقيقات بمدعاة أنهن أصبحن هو في عصمة رجال آخرين، وقد يكون للزوجة بصمة في انقطاع الأشقاء عن شقياتهم، فلنتذكر شقيقاتنا واخواتنا يااحباب، فكم فيهن النبيلات اللاتي تحسبهن أغنياء من التعفف كما قال ربنا.
وللوالدين حق علينا أحياء كانا أم أمواتا، فكم يضار البعض منا في الدنيا قبل الآخرة بسبب عقه لهما دون أن ينتبه.
اللهم بلغنا العيد وقد نصرت جيش السودان، وأغفر للشهداء وأكتب الشفاء للجرحى وأعد كل النازحين واللاجئين من أهل السودان إلى ديارهم، واجعل السودان بلدا آمنا مطمئنا، وارزق أهله من الثمرات وما بطن في أرضه من ثروات، واحفظ أهله وعوضهم خيرا انك ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم واكتب النصر العاجل المؤزر لعبادك في فلسطين على اليهود الغاصبين ومن عاونهم، واكتب الهزيمة والذل والعار على جيش الاحتلال وكل من أعانه بالسلاح والمال والمشورة، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اعد علينا العيد بالفرح والسرور والرضا وتفريج الكربات وتحقيق الأمنيات، سنين عديدة وازمنة مديدة.
اللهم احفظنا بحفظك واغمرنا بفضلك ومدنا بعونك ومن نعول بمشيئتك، وأدم علينا الأفراح والسلام دوما ياقادر يارحمن يارحيم، واجعل ولاياتنا في من أطاعك وحرص على دينك، ولاتحقق لليسار ولا لقحت/تقدم غاية ولاترفع لهم راية، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله عدد ما سبح لك من حي وجماد.
كل عام وأنتم بخير، وجعل الله كل أيامنا أعيادا ياااارب.
adilassoom@gmail.com
مشاركة الخبر علي :